10:55 ص

زواج القرية والخطّابات


في القرية الصغيرة الوادعة، كان الناس يعرف بعضهم بعضاً، يعرفون الرجل ووالده ووالدته، بل جَدّه وجَدّته، يعرفون الواحد منهم منذ كان طفلاً صغيراً، يحفظون تاريخ ولادته، وظروف نشأته؛ لأنهم يرونه أمامهم بكرة وعشياً، فلم تكن القرية بالسعة التي تجعل بعضهم يبتعد كثيراً عن الآخر.
كانت المناسبات البسيطة وغير المتكلفة تجمع أهل القرية، فيجتمع الأبناء مع آبائهم في حضور تلك المناسبات، كما تحضر الفتيات مع أمهاتهن بشكل مستمر.

لم تكن هناك خيارات ترفيهية أو مسببات تدفع للانشغال أو الغياب، ولم يكن أحد منهم قادراً على أن يعتكف في منزله، ويعتزل الناس وتجمعاتهم، بل كانت المخالطة المستمرة هي طبيعة الحياة وأسلوبها المعتاد؛ ولذا قيل في المثل الشعبي السائد (حنّا أهل قرية.. الأخ يعرف أخيه).
في تلك البيئات الاجتماعية، كانت عمليات الزواج تتم بسهولة ويسر، فالكل يعرف أسماء وأعمار البنات اللواتي هن في سن الزواج، والكل يعرف معلومات كافية عنهن، والأمر نفسه يقال عن الفتيان، فليس هناك حاجة للسؤال عنهم كثيراً، فلم تكن العنوسة شائعة آنذاك؛ لأن المعلومات متوافرة للجميع، وكان مجرد سؤال إحدى النساء الكبيرات عن خيارات الزواج كفيل بتوفير الكثير من العروض المناسبة، فيقدم الشاب على الخطبة وهو يعرف المخطوبة جيداً.

لكننا في مجتمعنا المحلي اليوم قد انتقلنا من ذلك الوضع البسيط المتقارب إلى وضع آخر مختلف كلياً عما كنّا عليه، فانتقل الناس إلى المدن بدلاً من مكوثهم في القرى والهجر، وباتت المنازل كبيرة ومتباعدة، ووسائل النقل متعددة، بتأثير الحالة الاقتصادية التي مرت بها البلاد بحمد الله.
وانشغل الناس كذلك بالتعليم على اختلاف مستوياته، وبالوظائف على تنوعها، فبات الواحد من أفراد هذا المجتمع قادراً على الانعزال عن مجتمعه القريب دون أن يشعر بعزلة حقيقية، فله أصدقاء في المدرسة أو الجامعة، وله زملاء في العمل، ثم جاءت وسائل الإعلام الجماهيرية، ثم الإنترنت، ثم الهواتف الذكية لتقضي على ما بقي من روابط التواصل المجتمعي، وتجعل كل بيت من البيوت “جزيرة” مستقلة، يمكنها العيش لفترات طويلة دون أي تواصل مع الجيران أو الأقارب؛ بسبب تلك المشاغل والمستجدات التي لا تنتهي.

وفي خضم هذا التغيير الكبير، انتشرت ظاهرة العنوسة، وبات البحث عن الزوجة المناسبة، والسؤال عن الشاب أمراً غير يسير؛ ذلك أن طبيعة المجتمع اختلفت، والمعرفة اليومية التي كانت توفرها القرية قد اختفت، ولم يبتكر المجتمع آليات جديدة تتوافق مع حجم التغيير الهائل، فامتلأت البيوت بالفتيات في سنّ الزواج، اللاتي لا ينقصهن شيء، ولا يعيبهن شيء، ومشكلتهن الوحيدة أنه لا يعرفهن أحد!

فالشاب الراغب في الزواج يبذل أهله الكثير من الجهود للعثور على المرأة المناسبة، ثم يحاولون السؤال عن نسبها، وحالها، وسلوكها، وماشابه..
فإذا صلحت لهم – بعد جهد – تقدم الشاب عليهم وانتظر فترة طويلة لأنهم يجهلون حاله تماماً ، وسألوا وأطالوا الوقت في السؤال، وربما لم يجدوا معلومات كافية فأحجموا.
ولهذا تبقى بعض الفتيات اللواتي لا ينقصهن شيء دون زواج.. وسبب ذلك أحياناً هو الانقطاع عن حضور تجمعات النساء ومناسباتهن انشغالاً أو تشاغلاً.

ولهذا فإنك تجد من يسكن أقصى الرياض .. ربما تزوج من الطرف الآخر منه، مع أنه ثمة خيارات كثيرة جداً أقرب إليه مسكناً..
ولو كانت المعلومة متاحة له لفضّل البحث عن الأقرب إليه موضعاً، وجعل ذلك مع بقية المتطلبات، وخاصة مع ظروف المدينة اليوم ومشقة التنقلات، ومايتبعها من انقطاع للزوجة عن أهلها بسبب هذا التباعد الجغرافي .
بينما لم يكن الوضع كذلك في القرية حيث المعلومات حاضرة لدى الطرفين، والمناسبات اليومية والأسبوعية تجمعهم، ولهذا فالشاب يعرفها قبل أن تتحجب عنه، ويتذكر شيئاً من حالها، والأمر ذاته بالنسبة للشاب .

وكان هذا الاحتياج الحقيقي للتوفيق بين راغبي الزواج الذي أحدثته الهجرة للمدن مدعاة لانتشار “النصابين والنصابات” الذين يعتبرون أنفسهم وسطاء، فجعلوا ذلك مصدراً للتكسّب غير المشروعحيناً ، ونشر الرذيلة أحياناً أخرى، كما أنه وبهدف تحقيق المكاسب المالية السريعة بات تجميل المعلومة وإخفاء المعايب مسلكاً سائداً ليتم الحصول على المقابل المادي من جراء ذلك، والنماذج على ذلك غير قليلة، مع الإقرار بوجود ثلة من الصادقين والصادقات الذين يقصدون بعملهم الخير، لكنهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.

ومن هنا فإنني أنادي كل مهتم بالمجتمع، حريص على نشر العفة والطهر والحشمة فيه، إلى التنادي لابتكار حلول جديدة، تكفل تحقيق مصلحة الشاب والفتاة بالتزويج وفق منهجية شرعية منضبطة تحقق المصلحة لكل الأطراف.

وما لم نفعل ذلك؛ فإن حجم العنوسة بكل تبعاته ومشكلاته سيكبر ويزداد…


تم النشر في صحيفة تواصل الإلكترونية من هنا

0 التعليقات:

إرسال تعليق