لعنة المعرفة
هناك مايسميه شيب هيث و دان هيث، مؤلفا كتاب (أفكار وجدت لتبقى) بـ لعنة المعرفة ! وهي مشكلة شائعة وان لم نسمها بهذا الاسم!
ألم يمرّ عليك وقت عجزت فيه عن شرح ماتعتبره أنت من البديهيات لشخص لم يسبق له أن عرف هذا الشيء؟
فتراك تشرح، ثم توجز، ثم تمثّل، وتكون - ربما - بعد ذلك كله كما قيل:
أراد أن يعربه فأعجمه
والمعنى التفصيلي لهذا المصطلح : أن يكون المرء مدركاً بشكل تفصيلي لـ (المعرفة) حول موضوع محدد، ومن شدّة فهمه وإدراكه واطلاعه على تفاصيل التفاصيل فيه، فإنه حين يريد إيصال هذه المعرفة للآخرين، يعجز عن تبسيطها لهم لكي يفهموها، فتراه بعد كل الشرح للفكرة، لا يزيدها إلا غموضاً، ويصاب الحاضرون بالعجز عن فهم مراده.
وتجد أنه يتعجب كيف توقفت عقولهم عن فهم كلامه، وكيف قصرت أفهامهم عن إدراك مقصده وحديثه "الواضح جداً"، و"البدهي" بينما في الحقيقة أن المشكلة لديه هو، وليست لديهم!
ذلك أنه بعد أن كان جاهلاً بالفكرة - مثلهم اليوم تماماً - ، قد بذل كثيراً، و أمضى مدة غير قصيرة في فهمه للفكرة واستيعاب تفاصيلها، وبذل جهداً كبيراً في ذلك، وبدأ في بناء تصوّره للفكرة شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت الصورة لديه واضحة جداً، وباتت الكثير من المعلومات المهمة حول الفكرة عادية ومعروفة ويسيرة.
فحين يحاول إيصال الفكرة للغير، فإنه يعجز عن تصور حاله قبل العلم بها، ولذا يستخدم مصطلحات ومفاهيم ويرددها على المستهدفين، ويعجز عن تبسيطها بأسلوب واضح، وتجد أنه يريد من الناس أن يفهموها بسرعة لشدة وضوحها في ذهنه.
لهذا عُرف عن بعض الخبراء أو العلماء فشلهم في التعليم ونقل المعرفة أو الخبرة من جراء هذا الخلل، بل وفشلهم في إدراك المشكلة، وأن سببها الرئيس ليس (الجهل) بل (المزيد من العلم والمعرفة المتوفر لديهم)، فلا يفهم حديثهم إلا القلة ممن لديهم مقدمات هذا المعرفة وأجزاء منها.
وفي أرض الواقع : يقع بين يدي بين حين وآخر مطويات تعريفية بمشروع، أو موقع إلكتروني لمشروع، يصوغ محتواها (الخبير ذو المعرفة) فلا تفهم شيئاً من مراده، وتتعجب كيف لمثل هذا النص أن ينشر بهذه الصيغة غير المفهومة.
لذا كان مهماً أن لا يترك أمر إيصال الرسالة للجماهير للمختصين في الفكرة فحسب، فتغدو المادة كالألغاز، بل لابد أن يناقش الخبير أحداً ممن يحسن الصياغة، ويطيل النقاش معه والتنبيش والاستيضاح ووضع البدائل اللفظية، والأمثلة، ثم يكتب مختص الصياغة النصوص المعبّرة عن الفكرة، ويعيد عرضها على الخبير، مع عدم قبول عباراته وجمله العلمية كما هي، فمن ضمن (لعنة المعرفة) كذلك أن يطمح المتخصص إلى حشو تلك النشرات والمواقع بالكثير الكثير من المعلومات التي يعتبرها مهمة، وهي في الحقيقة ليست كذلك.
و يقال : (إذا لم تستطع شرح فكرتك لطفل صغير بكل سهولة، فلديك مشكلة في التعبير) .
والآن: ارجع بالذاكرة إلى وقت مضى، وحاول تذكّر أوقات كنت فيها عاجزاً عن إفهام الآخرين ماتعتبره بديهياً، وتذكّر كذلك معلمين أو خبراء كانوا يسعون جاهدين لشرح بعض القضايا دون نتيجة تذكر، وتدارك فيما بقي، فأحسن تبسيط المعرفة وتيسيرها، تكون بذلك قد قدمت رسالة مختلفة، وواضحة ومؤثرة.
دمتم بخير
محمد بن سعد العوشن
إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري
تم النشر في صحيفة تواصل من هـنـا
11:23 ص