يا صديقي .. لقد تغيّرت !
لم أنسَ على الإطلاق موقفاً مع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الدويش رحمه الله رحمةً واسعة، والذي كانت بيني وبينه صحبة وصلة، لكنها صحبة التلميذ الذي هو أنا لمعلمه وأستاذه وشيخه، إذ بينما كنا في رحلة بريّة أمضينا منها يوماً وليلة، أخذ بيدي، وخلى بي، ثم قال لي: (يا محمد، ألاحظ عليك البارحة شيئاً من الأرق، ولم تنم -كعادتك -بشكل سريع، وكنتُ قد عهدتك تخلد إلى النوم حين تضع رأسك على الوسادة، وما رأيته البارحة كان على خلاف ذلك، فهل وقع لك شيء ينغص عليك، أم أن لديك مشكلة تستوجب البحث عن حلّ؟).
فأجبته – حينها-أن ليس شيء من ذلك كله، لكنني لم أكن بحاجة إلى النوم حين أويت إلى فراشي، فطال مكثي فيه، وهو أمر غير معتاد، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: (يا محمد، احرص -قبل نومك -أن لا تكثر من التفكير المتعمق، والتحليل والتفسير لما قال هذا أو قال ذاك، فإن ذلك مدعاة لأن يصيبك الأرق، فيتنكد عليك عيشك، فعش متسامحاً ولا تدقق على كل ما يقال)، وقد التزمت وصيته التي أوصاني بها منذ ثلاثة عقود، وانتفعت بها جداً، ولا زلت أذكر حديثه – رحمه الله -وكأنه البارحة.
وشاهدي من هذه القصة أنه حين رأى -وهو المربي القدير -شيئاً من التغيّر لم يسكت، بل بادر مستفهماً، وناصحاً، ومحفزاً، وموجهاً.
وأنت أيها القارئ الكريم. لربما التقيت بأحد أصحابك، وقد بدا لك جلياً أنه لم يعد صاحبك الذي تعرف، وأن ثمة تغييرات حقيقية قد أحسست بها، فماذا فعلت؟
الواقع أن الواحد منا يلتقي بين فينة وأخرى بأشخاص متنوعين، وتتباين عدد مرات اللقيا ومدة كل لقاء بين شخص وآخر، حسب طبيعة العلاقة التي تربطك بهم نوعاً وكيفاً وزماناً، لذا كان من الطبيعي أن لا تلاحظ في اللقاءات العابرة تغييراً في سلوكهم أو تصرفاتهم، إذ أن المجاملات – غالباً – تكون سيدة المواقف القصيرة، فلا يظهر المرء للناس إلا أفضل الوجوه، وإنما يكتشف ويدرك التغيّر الذي وقع للمرء من كانوا يعرفونه جيداً، ويدركون تفاصيله الجسدية والنفسية، ويتابعون هيئته ولباسه، ويعلمون اهتماماته وتفضيلاته وحكاياه، فيشعرون أن فلاناً اليوم ليس كما كان سابقاً، يدركون الخلل، ويدركون التميز في الوقت ذاته.
والذي يهمني الحديث عنه هنا هو الجانب الأول، وهو التغير السلبي الذي يطرأ على البعض بشكل تدريجي، إذ إنه ما لم يكن للصديق والقريب دور حقيقي في إشعار الطرف الآخر بهذا التغير حين حدوثه، والتنبيه إلى البدايات منذ وقوعها، فلا نتوقع أن يكون ذلك من الشخص البعيد الذي لا تسمح له طبيعة العلاقة ولا وقتها بالدخول في التفاصيل، بل لربما اعتبر دخوله تطفلاً غير مقبول.
إننا نحن القريبون والأصدقاء الخلّص مسئولون عن تقديم النصيحة، وإبداء الملاحظة، وسؤال الطرف الآخر سؤال المحب المشفق – لا الفضولي – عن سبب التغير الناشئ، بل والوقوف معه، والعمل – بكل حب – للمساهمة في دلالته وإرشاده وتوجيهه وتوعيته بمظاهر التغير التي طرأت، وتأثيراتها، والسعي الجاد معه لوضع الحلول، ومتابعة تنفيذها حتى يتخطّي هذه الأزمة أو المشكلة التي يعاني منها، وهنا يتبين دور الصديق فعلاً، حيث يصدق صاحبه، ويمحض له النصيحة، لا يرجو من ذلك مصلحة، ولا جزاء ولا شكوراً، وفي حديث تميمِ بن أوسٍ الدَّاري – رضي الله عنه – أن النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: (الدِّين النصيحة)، قلنا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتِهم)، وقد قال النوويُّ – رحمه الله – عن هذا الحديث: “هذا حديثٌ عظيم الشَّأن، وعليه مَدارُ الإسلام… وأمَّا ما قاله جماعاتٌ من العلماء أنَّه أحدَ أرباعِ الإسلام؛ أيْ: أحَدُ الأحاديثِ الأربعة التي تَجمع أمورَ الإسلام، فليس كما قالوه، بل المدارُ على هذا وَحْدَه”.
ولعل الزوجة والأبناء والإخوة والأخوات والوالدين هم أقرب الناس لبعضهم البعض، فهم أحوج ما يكونون لتقديم ملاحظتهم الصادقة لمن يحتاج إليها من عائلتهم، ذلك أن المتورط في المشكلة قد لا يلاحظ آثارها، وقد لا يدرك حجم أضرارها، وقد يكون منشغلاً بالتعاطي معها فيغفل عما سواها، فيقصّر ويهمل ويتغيّب.
فما أحوجنا جميعاً إلى أن نتحلى بالجرأة التي تدفعنا لمكاشفة أحبتنا بأي شيء نراه وهو ينقص من قيمتهم، أو يضر بهم، أو يضعف تأثيرهم ودورهم، أو يقلل من فرص نجاحهم.
وغير خاف على القارئ الكريم أن ذلك كله يكون بالأسلوب المناسب، والوقت المناسب، وفي حديث خاص وليس تشهيراً أمام الناس، فذلك مدعاة للقبول، وسبب في تحقيق الأثر، وهو هدف الناصح ومراده وباعثه.
رزقنا الله الناصحين من الأحبة، الذين يبصروننا بعيوبنا، ويساعدوننا بكل حب على تغييرها، وجعلنا ممن يمحض النصيحة لأصحابه، فنكون -بعد الله -خير معين لهم على النمو والارتقاء، والتحسين المستمر طيلة الحياة، ونكون قيمة رائعة في حياتهم، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه.
دمتم بخير
محمد بن سعد العوشن
إعلامي مهم بتطوير الذات والعمل الخيري
@bin_oshan
تم النشر في صحيفة تواصل من هـــنـــا
فأجبته – حينها-أن ليس شيء من ذلك كله، لكنني لم أكن بحاجة إلى النوم حين أويت إلى فراشي، فطال مكثي فيه، وهو أمر غير معتاد، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: (يا محمد، احرص -قبل نومك -أن لا تكثر من التفكير المتعمق، والتحليل والتفسير لما قال هذا أو قال ذاك، فإن ذلك مدعاة لأن يصيبك الأرق، فيتنكد عليك عيشك، فعش متسامحاً ولا تدقق على كل ما يقال)، وقد التزمت وصيته التي أوصاني بها منذ ثلاثة عقود، وانتفعت بها جداً، ولا زلت أذكر حديثه – رحمه الله -وكأنه البارحة.
وشاهدي من هذه القصة أنه حين رأى -وهو المربي القدير -شيئاً من التغيّر لم يسكت، بل بادر مستفهماً، وناصحاً، ومحفزاً، وموجهاً.
وأنت أيها القارئ الكريم. لربما التقيت بأحد أصحابك، وقد بدا لك جلياً أنه لم يعد صاحبك الذي تعرف، وأن ثمة تغييرات حقيقية قد أحسست بها، فماذا فعلت؟
الواقع أن الواحد منا يلتقي بين فينة وأخرى بأشخاص متنوعين، وتتباين عدد مرات اللقيا ومدة كل لقاء بين شخص وآخر، حسب طبيعة العلاقة التي تربطك بهم نوعاً وكيفاً وزماناً، لذا كان من الطبيعي أن لا تلاحظ في اللقاءات العابرة تغييراً في سلوكهم أو تصرفاتهم، إذ أن المجاملات – غالباً – تكون سيدة المواقف القصيرة، فلا يظهر المرء للناس إلا أفضل الوجوه، وإنما يكتشف ويدرك التغيّر الذي وقع للمرء من كانوا يعرفونه جيداً، ويدركون تفاصيله الجسدية والنفسية، ويتابعون هيئته ولباسه، ويعلمون اهتماماته وتفضيلاته وحكاياه، فيشعرون أن فلاناً اليوم ليس كما كان سابقاً، يدركون الخلل، ويدركون التميز في الوقت ذاته.
والذي يهمني الحديث عنه هنا هو الجانب الأول، وهو التغير السلبي الذي يطرأ على البعض بشكل تدريجي، إذ إنه ما لم يكن للصديق والقريب دور حقيقي في إشعار الطرف الآخر بهذا التغير حين حدوثه، والتنبيه إلى البدايات منذ وقوعها، فلا نتوقع أن يكون ذلك من الشخص البعيد الذي لا تسمح له طبيعة العلاقة ولا وقتها بالدخول في التفاصيل، بل لربما اعتبر دخوله تطفلاً غير مقبول.
إننا نحن القريبون والأصدقاء الخلّص مسئولون عن تقديم النصيحة، وإبداء الملاحظة، وسؤال الطرف الآخر سؤال المحب المشفق – لا الفضولي – عن سبب التغير الناشئ، بل والوقوف معه، والعمل – بكل حب – للمساهمة في دلالته وإرشاده وتوجيهه وتوعيته بمظاهر التغير التي طرأت، وتأثيراتها، والسعي الجاد معه لوضع الحلول، ومتابعة تنفيذها حتى يتخطّي هذه الأزمة أو المشكلة التي يعاني منها، وهنا يتبين دور الصديق فعلاً، حيث يصدق صاحبه، ويمحض له النصيحة، لا يرجو من ذلك مصلحة، ولا جزاء ولا شكوراً، وفي حديث تميمِ بن أوسٍ الدَّاري – رضي الله عنه – أن النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: (الدِّين النصيحة)، قلنا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتِهم)، وقد قال النوويُّ – رحمه الله – عن هذا الحديث: “هذا حديثٌ عظيم الشَّأن، وعليه مَدارُ الإسلام… وأمَّا ما قاله جماعاتٌ من العلماء أنَّه أحدَ أرباعِ الإسلام؛ أيْ: أحَدُ الأحاديثِ الأربعة التي تَجمع أمورَ الإسلام، فليس كما قالوه، بل المدارُ على هذا وَحْدَه”.
ولعل الزوجة والأبناء والإخوة والأخوات والوالدين هم أقرب الناس لبعضهم البعض، فهم أحوج ما يكونون لتقديم ملاحظتهم الصادقة لمن يحتاج إليها من عائلتهم، ذلك أن المتورط في المشكلة قد لا يلاحظ آثارها، وقد لا يدرك حجم أضرارها، وقد يكون منشغلاً بالتعاطي معها فيغفل عما سواها، فيقصّر ويهمل ويتغيّب.
فما أحوجنا جميعاً إلى أن نتحلى بالجرأة التي تدفعنا لمكاشفة أحبتنا بأي شيء نراه وهو ينقص من قيمتهم، أو يضر بهم، أو يضعف تأثيرهم ودورهم، أو يقلل من فرص نجاحهم.
وغير خاف على القارئ الكريم أن ذلك كله يكون بالأسلوب المناسب، والوقت المناسب، وفي حديث خاص وليس تشهيراً أمام الناس، فذلك مدعاة للقبول، وسبب في تحقيق الأثر، وهو هدف الناصح ومراده وباعثه.
رزقنا الله الناصحين من الأحبة، الذين يبصروننا بعيوبنا، ويساعدوننا بكل حب على تغييرها، وجعلنا ممن يمحض النصيحة لأصحابه، فنكون -بعد الله -خير معين لهم على النمو والارتقاء، والتحسين المستمر طيلة الحياة، ونكون قيمة رائعة في حياتهم، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه.
دمتم بخير
محمد بن سعد العوشن
إعلامي مهم بتطوير الذات والعمل الخيري
@bin_oshan
تم النشر في صحيفة تواصل من هـــنـــا
5:32 م