اكتبوا .. قبل رحيل الخبرات
غيّب الموت كثيراً من رجالات العمل الخيري وقياداته والخبراء فيه، وافتقدهم العمل وهو في أمسّ الحاجة إليهم، افتقدهم وهم في مرحلة النضج، حيث نمت معارفهم، وازدادت خبراتهم، واستوت تجربتهم، وعظم تأثيرهم ودورهم، ففي خضم ذلك الصعود والترقّي، غادرونا دون ميعاد، وغابوا عن المشهد بصمت..، غادروا وذكرياتهم باقية، إذ يتردد اسمهم مرة بعد أخرى، ثم يبدأ ذلك الاسم في الخفوت شيئاً فشيئاً، فيسمع بهم الداخلون الجدد إلى العمل الخيري سماعاً عاماً، تروى فيه لهم بعض الحكايا والقصص عن أولئك الرواد الأوائل، وبذلهم وصنيعهم، ولا يتجاوز الحديث عنهم إلى ما هو أعمق..فتغيب شخوصهم، وتغيب خبراتهم في الوقت ذاته.
ورغم أن أولئك الرواد – والريادة لا تقتصر على جيل دون جيل – كانوا منخرطين في العمل، متسلحين بالعلم والخبرة والتجربة الواسعة، ولديهم مخزون معرفي كبير ومميز، تلحظه في أحاديثهم، وتسمعه في لقاءاتهم، إلا أن الملاحظ لكل ذي عينين أنهم في الوقت ذاته ومع كل هذا البذل والجهد إلا أنهم مقتصدون (جداً ) في توريث تلك الخبرة والتجربة للذين يلونهم، لا عن تعمّد وقصد، بل انشغالاً باليوميات، وانخراطاً في مجريات العمل.
وهم فيما يتعلق بخبرتهم، إما متواضعون زاهدون فيما لديهم، يشعرون أنه ليس لديهم ما يستحق الكتابة أصلاً، وإما أن يكونوا مدركين أن لديهم الكثير مما يفترض أن يكتب، لكنهم يترقبون الوقت المناسب الذي يتخففون فيه من المشاغل، وتكون فيه الظروف مواتية، ليقوموا حينها بالكتابة، وهذه الظروف المنتظرة لا تجيئ غالباً ، لأن سلسلة المشاغل لا تنتهي، وظروف الحياة متغيرة ومتجددة، ويظل الواحد من هؤلاء يؤجل ويسوّف إلى أن يفجأه الموت على حين غرّة، وتغادر روحه جسده، فتدفن معه كل تلك التجارب والخبرات، وتذهب معه حصيلة ضخمة من المعارف والعلوم التي حل حصادها، وحان وقت قطاف ثمارها.
لذا فليس غريباً أن يعتبر ذلك المدير الأمريكي (المقابر) أغنى الأراضي في العالم كله ، والسبب في ذلك الغنى أن ملايين البشر قد رحلوا إليها وهم يحملون في عقولهم الكثير من الأفكار القيّمة، والخبرات المتراكمة التي لا تقدر بثمن، رحلت معهم وهي لم تخرج إلى النور ولم يستفد منها أحد.
وهو ما ألهم (تود هنري) لتأليف كتابه الرائع (مُت فارغاً) والذي يدعو فيه البشر إلى أن يفرّغوا كل ما لديهم من أفكار وطاقات كامنة في مجتمعاتهم، وأن يقوموا بتحويلها إلى شيء ملموس قبل فوات الأوان، وكان من العبارات الجميلة التي ساقها (هنري) في كتابه: “لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل في داخلك أفضل ما لديك، اختر دائماً أن تموت فارغاً”، فهو يدعو إلى أن تغادر حين تغادر وكأنما فرّغت كل ما بداخلك من خير على أرض الواقع، ولم يبق لديك شيئاً لم تعلّمه للآخرين، أن تسلّم خبرتك وعلمك وأفكارك قبل أن ترحل، ونترك التأجيل والخلود إلى الراحة والتهرّب من تقييد التجربة فإن “حب الراحة هو عدو العظمة”.
ولا شك أن تقييد الخبرة، وتسجيل التاريخ، ليس أمراً يسيراً، ولا ممتعاً بطبيعة الحال، كما أن النفس ميّالة إلى السكون والدعة والبقاء في حدود منطقة الراحة والاعتياد لما ألفته من أعمال، ولقاءات، واجتماعات دورية، إذ لم تعد تتطلب جهداً كبيراً، ولا بذلاً إضافياً، أما التحوّل إلى عمل جديد وهو (الكتابة) وما يتبعها من المراجعة والتدقيق، وتجهيز تلك المادة للنشر، بكل ما يحمله ذلك من احتمالات ناتجة عن عرض عقلك على الناس، وتوقّع لطبيعة ردود الأفعال التي يمكن أن تقال حينذاك، فإن النفس تهابه وتخشاه، وتميل إلى تأجيله أو تبرير عدم القيام به، خصوصاً مع التقدم في العمر، وحصول المكانة، فيتخوّف المرء من القيام بأي شيء جديد، وينتظر ذلك الخبير أن ينشط أحدهم لهذه المهمة ويسعى ليستخرج منه تلك الدرر دون أي جهد سوى الحديث الشفهي المرتجل فحسب.
إن توريث الخبرات، والتجارب، واختصار الزمن، وتعظيم الأجر يحتاج إلى جهد ووقت وبذل لا يمكن أن يتم إلى من خلال تحويل تلك الأمنيات إلى واقع، وعدم الانتظار ، واتخاذ القرار بالبدء في تقييد التجربة، وتحديد مواعيد نهائية لإنجاز المراحل، والنشر الإلكتروني لكل مرحلة يتم إنجازها بهدف ضمان النشر الفوري، وتلقي التغذية الراجعة سريعاً، وأن يعطى الأمر حقّه من خلال تخصيص الوقت اللائق به، وعدم اعتباره من فضول الأعمال، ولعل مما يعين على ذلك : تذكّر أن الموت يأتي فجأة، وأن كثيراً ممن رحلوا لم يكونوا يتوقعوا المغادرة بهذه السرعة، فاتعظ بمن سبقك، واتخذ قرارك.
دمتم بخير،،،
محمد بن سعد العوشن
bin_oshan@
تم النشر في مدونة مجلس المؤسسات الأهلية على هذا الرابط