الصديق الحقيقي!
وربما ظن المرء أنه حين يجد الجد، ويقع المكروه، وينشد "الفزعة" منهم، فإن تلك الأعداد غير المحدودة، جاهزة للمبادرة، تنتظر الإشارة منه، بل ربما توقع أن يسبقوا لذلك دون انتظار النداء.
والحقيقة أن هذا وهم كبير، فالناس الذين تعرفهم أو عشت معهم، أو تزاملت معهم في دراسة أو عمل، يتعايشون معك بوصفك جزءاً من مجتمعهم، وهم يعدونك جزءاً يسيراً من علاقاتهم الكثيرة، فلا تتوقع أن تكون لدى كل واحد منهم في المنازل الأولى، وأنه ينظر إليه كأقرب صديق، ذلك أن تلك التوقعات حين يجد الجدّ ستكون مؤلمة جداً.
وما أجمل بيت الشاعر عبد الله بن عون في هذا التفريق المهم بين الأصحاب، حيث يقول:
بعض العرب للتمشية والتساهيل * وبعض العرب للمعضلات وخطرها
ومثله بيت الشاعر فهد الصميدي، الذي يقول فيه:
أحدن أجيه اضيع الوقت واياه * واحدن إلى ضيعني الوقت جيته
إنه أسلوب حياة في التعامل مع الآخرين، يقتضي وضع كل واحد منهم في منزلته التي تليق به، وهو يعني الانفتاح واللطف مع الجميع، مع إدراك أن ذلك يأتي من باب الإحسان وفعل الخير، وبذل المعروف، الذي يرجى نفعه في الدنيا، وأجره في الآخرة، فالتبسم في وجوه الآخرين، وأن يكون المرء ممن يألف ويؤلف هو أمر ممدوح ومرغّب فيه، غير أنه في الوقت نفسه يجب الانتباه جيداً لتلك القلة القليلة، والنخبة المنتقاة من الأصدقاء الصدوقين المقرّبين، الذين يعلم المرء أنهم أهل لهذه المنزلة، وأنهم جديرون بتخصيصهم بالبذل والوقت والاهتمام والعناية، هؤلاء القلة جديرون بأن يحظوا بامتيازات خاصة، لا أن تعاملهم كما تعامل بقية الرفاق.وفي الوقت الذي تتساءل وتتلفت في وجوه أصحابك متسائلاً في نفسك: أيهم "للمعضلات وخطرها"؟ وأيهم إذا ضيّعك "الوقت جيته"؟ وهو تساؤل مشروع ومطلوب؛ عليك أن تسأل نفسك: أي أولئك ينظر إليك تلك النظرة ذاتها، ويعلّق عليك الآمال حين تنزل به النازلة، أيهم سيقصدك قبل أن يفكر في سواك، وأيهم سيلجأ بعد الله إليك، وأيهم يؤمل أن تبادر لـ"الفزعة" معه قبل أن يسأل؟ وهل ستكون عند حسن ظن أصدقائك بك، أم أنك وقت حاجتك كثير الإلحاح، ووقت حاجتهم كثير الأعذار.
إن من الحصافة والحكمة أن يختار المرء أصدقاءه الخلّص، وأن يفي للصداقة بحقوقها، وأن يسأل الله تعالى ألا يحوجه إلى أحد، لكنه حين يحتاج فسوف يراهم إلى جانبه وقوفاً، لا تصرفهم عنه المعاذير، والجزاء من جنس العمل.
أيها القارئ الكريم.. إنني أدعوك لأن تكون لطيفاً مع الكل، لكنك أكثر لطفاً وأثراً مع أولئك النفر القليل، وأدعوك لأن تكون كريماً، لكنك أكثر كرماً مع الأصدقاء الحقيقيون، وأدعوك لأن تكون ذا نجدة، وفزعة، ونصرة لمن تستطيع، لكنك أكثر وأسرع إلى الثلة المختارة.
دمتم بكل خير.
محمد بن سعد العوشن
(الرياض) حرسها الله
29 ربيع الثاني 1445
الموافق 12 /11 / 2023
وما أكثر الأصحاب حين تعدّهم ** ولكنهم في النائبات قليل
ردحذفكلمات تكتب بماء الذهب في هذا المقال
ردحذف(( إنني أدعوك لأن تكون لطيفاً مع الكل، لكنك أكثر لطفاً وأثراً مع أولئك النفر القليل، وأدعوك لأن تكون كريماً، لكنك أكثر كرماً مع الأصدقاء الحقيقيون، وأدعوك لأن تكون ذا نجدة، وفزعة، ونصرة لمن تستطيع، لكنك أكثر وأسرع إلى الثلة المختارة )).