لغة القالب

التخطيط الاستراتيجي و كسـر الصندوق

حينما استمعت إلى أمين عام اللجنة الإستراتيجية في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية (الجهة التي تولت إصدار وثيقة رؤية المملكة 2030)، وهو يتحدث عن كواليس ولادة الرؤية، وكيف أن العمل في إعدادها كان خارج المألوف والمعتاد في أسلوب العمل الحكومي، أدركت عن كثب، كيف يمكن تحقيق النجاح في التخطيط الاستراتيجي.

ومن هنا وددت أن أسجّل جملة من الدروس المستفادة من هذه الرحلة، لتكون أنموذجاً للعمل في مشروعاتنا، ومنظماتنا على اختلاف تخصصاتها حينما ترغب في إحداث أثر فاعل، وتغيير جوهري.

الدرس الأول: أهمية العمل التشاركي في بناء الخطة، فالعمل في الخطة الاستراتيجية لم يكن مسؤولية جهة واحدة (الجهة المعنية بإدارة الخطة مثلاً)، بل كان مسؤولية الجميع، وكان العمل على الاستراتيجية بإشراف مباشر، ومتابعة مستمرة من رأس الهرم، فيحضر، ويستمع، ويناقش، ويطرح. 

الدرس الثاني: أهمية أن تحلم عند بناء الخطة بلا سقف، وأن تخطط بلا حدود تمنعك من التفكير، وأن تعمل وطموحك عنان السماء. ذلك أنك حينما ترفع سقف أحلامك، وتقرر المضي قدماً إلى أماكن ومساحات عمل جديدة، وغير مألوفة، فقد تنجح، وقد تخفق، وهو الأمر نفسه لو اخترت المضي إلى أماكن وأساليب وأدوات تقليدية ومعتادة، فاحتمالية النجاح والفشل قائمة في كليهما، غير أن اتخاذ القرار الجريء بالسير قدماً نحو الأحلام العظيمة، يقود غالباً إلى تحقيقها أو تحقيق جزء منها، وهو ما يعدّ نجاحاً غير اعتيادي. وتذكرت حينها المقولة الشهيرة لـ پي تي بارنم: "ليكنْ طُموحك الوصول للقمر، حتى وإن لم تبلغه فمكانك بين النجوم".

الدرس الثالث: أهمية حشد العقول المتميزة لإنتاج خطة متميزة، فذلك الحشد يعدّ من عوامل النجاح الكبرى، فإحسان اختيار المواهب والطاقات، والتكشيف عنها، وتوظيفها، وإطلاق العنان لتلك العقول لتفكّر، وتخطط، وتبتكر، وتحلم، يجعلك تحصد نتاجاً مختلفاً، وأفكاراً نوعيّة، ومقترحات خلاّقة.

الدرس الرابع: أن النتيجة المنشودة لهذا الجهد الكبير، هو خارطة طريق للمستقبل، وأن تكون نتيجتها رؤية (نجمية) بعيدة المنال، وهدفاً مختلفاً كلياً يتم السعي إليه، ومحاولة تحقيقه، فلا يصلح ان تكون خاتمة هذا العمل الدؤوب والمنظّم، والجهد المتواصل، والمركّز، مجرد خطة استراتيجية محددة بسنوات قليلة.

الدرس الخامس: أهمية متابعة العمل على تنفيذ الخطة، فبينما تثبت الدراسات أن كثيراً من الخطط الاستراتيجية تفشل حينما تنتقل من التنظير إلى التطبيق، فإن الخطوة التي تم اتخاذها في النموذج المشار إليه قد اتخذ خطوة مهمة لضمان عدم الوقوع في ذلك، من خلال إنشاء مكتب مستقل لإدارة الاستراتيجية، يشرف ويتابع ويقدم تقاريره بشكل متتابع، وأفرز ذلك عن إطلاق برامج كبرى، ومستهدفات محددة لكل الجهات، وتجمعاً لكل القطاعات والجهات المتشاركة في الهدف، وتحول واقع العمل  من كونه (جزراً مستقلة) تعمل كل واحدة منها بمفردها، إلى (العمل المشترك) فالجميع يعمل مع الجميع لتحقيق مستهدفات الجميع، لقد كان العمل استراتيجياً في التخطيط، وإبداعياً في التنفيذ.

الدرس السادس: أن الخطة الناجحة ليست تخص جزءاً من المنظمة، من خلال إدراك أن المسؤولية عنها ليست مهمة (جزء) من المنظمة تسعى، وتحاول، وتبذل قصارى جهدها، بينما يكتفي البقية بالجلوس على مقاعد المتفرجين، كلا، فهي مسؤولية المنظمة برمتها، وتشعر جميع الإدارات والجهات المختلفة بأنها شريكة في هذه الخطة الاستراتيجية، وأن عليها جزءاً من المسؤولية نحو تحقيقها وفقاً لطبيعة اختصاصها، وحجم تقاطعها مع مستهدفاتها.

الدرس السابع: أن الخطة الناجحة ليست نخبوية، فيجب الحشد والترويج لها، والتوعية بها، ذلك أنها خطة الجميع، وهو ما يجعلها على لسان كل أحد، ويجعل مفرداتها محل حديث جميع أصحاب المصلحة والمستفيدين الداخليين والخارجيين، ويكون ذلك الحشد سبباً في دفع الجميع لتبنيها، وسعيهم للتوافق معها، فتصبح محل عناية الجميع، ومعرفة الجميع،

الدرس الثامن: أن الخطة الناجحة هي التي يتم تبنيها من أعلى سلطة تنظيمية، فتتحدث عنها القيادة العليا بكل فخر، وتبشر بها، وتعلن التبني الكامل لها، والثقة الكبيرة في تحقيقها، وإيضاح أنها ستكون مسار العمل للجميع دون استثناء، فذلك أقوى طاقة يمكن بثها في عروق الخطة لتنمو وتكبر وتتحقق.

الدرس التاسع: أن الخطة الاستراتيجية الناجحة عي التي تغيّر ثقافة المنظمة ، ولذا في نموذج الرؤية 2030م شاعت مفاهيم ومصطلحات كثيرة عل  السنة الجميع، وأصبحت مفردات مثل (المجتمع الحيوي، والاقتصاد المزدهر، والوطن الطموح، والمكانة الدولية والمؤثرة، وتنويع مصادر الدخل، وبرامج الإسكان، والقدرات البشرية، والخدمات اللوجستية، وجودة الحياة، والحوكمة، والتطوع، والعمل التنموي، والاستدامة) متداولة وشائعة، فأسهمت الرؤية في ذيوعها، والتوعية بها، وكذلك كل رؤية استراتيجية لمنظمة، يجب أن تستطيع نشر وإشاعة المصطلحات الحديثة المرتبطة بها، وتثبيتها في نفوس الجميع.

و ختاماً: فإنني أدعو نفسي وأدعو كل قارئ، إلى أن تكون هممنا وخططنا طموحة دوماً، وأن تكون أعلى وأفضل من واقعنا الذي نعيشه، وأن نردد قول الشاعر :

إذا غامرت في شرفٍ مروم * فلا تقنع بما دون النجوم

نعم، نحن بحاجة إلى الخروج من الصناديق التي وضعناها لأنفسنا، بل كسرها، وتجاوز الحدود التي قيّدنا بها طموحاتنا.

نحن بحاجة إلى خطط شخصية، ومؤسساتية، تحمل في جعبتها أهدافاً تشكّل تحدياً فعلياً لقدراتنا وإمكاناتنا، بما يدفعنا لبذل المزيد من الجهود من أجل تحقيقها، ولو كان في ذلك شيء من المشقة المؤقتة لأجسادنا

وإذا كانت النفوسُ كباراً * تعبت في مرادها الأجسامُ

وبمثل تلك الخطط الطموحة، والعملية، والتشاركية، يمكننا الصعود إلى أعلى القمم، وتحقيق أكبر النجاحات.

دمتم بخير ،،،

وكتبه 

محمد سعد العوشن

bin_oshan

الرياض - حرسها الله -

23 / 5 / 1445هـ

11:18 ص

  1. سلمت أستاذنا على هذا الإبداع في اقتناص هذه الفوائد والفرائد

    ردحذف

عدد المواضيع