الانعتاق
تحدث ابن خلدون -رحمه الله- عن التأثير الواقع على المغلوب من الغالب بحديث عجيب، يصف فيه دواخل النفوس، وطباع البشر، وكأنه يصف حالنا الناس اليوم مع سائر الأمم الغربية، إذ أشار إلى أن "المغلوب" مولع أبداً بالاقتداء بـ "الغالب" في شعاره وزيّه و نحلته وسائر أحواله و عوائده، فالنّفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبداً بالغالب.
إن الانعتاق من رقّ الأجنبي، والخروج من الصورة النمطية للمغلوبين يعدّ خطوة مهمة جداً نحو النهضة، ذلك أن المقلّد مهما أبدع وأجاد فإنه يسير تابعاً، ويبقى في الذيل، ولا يمكن للتابع أن يتقدم على المتبوع.
ومن أجل التقدّم على المتبوع، وتجاوز هذه الحالة النفسية، يجب أن نستشعر أن لدينا من الإمكانات، والقدرات، والثقافة، والمرجعيات، والوعي، والأصالة، ما يجعلنا قادرين على أن نقدم للبشرية نموذجاً أفضل وأرقى، نموذجاً يتوافق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
إنها حالة من "التعالي المحمود" على تلك المجتمعات المنسلخة عن القيم والمبادئ، تلك المجتمعات التي تعيش مرحلة عظيمة من التيه، وفقدان البوصلة نحو السعادة في الدارين، تلك المجتمعات التي هي أشبه بالمدمن الذي يستمر في كل مرة بأخذ المزيد من جرعات المخدر، لأن المقدار الحالي منها لم يعد كافياً لتحقيق الإشباع، ولذا تراهم يتنقلون في دركات الانحدار القيمي والأخلاقي بشكل مريع وسريع في الوقت ذاته.
لقد تجرّد العالم الغربي اليوم من كل ما جاءت به الأنبياء من تعاليم روحية، وفضائل أخلاقية، ومبادئ إنسانية، وأصبح لا يؤمن إلا بملذاته ومنافعه المادية، وانقلب على الطبيعة الإنسانية، والمبادئ الأخلاقية، واستهان بالغايات و المآلات، ونسي مقصد الحياة، وتمكن منه الشيطان، وحقق فيه وفي من يتّبعه وعوده، وخطته الاستراتيجية، (ولأضلّنهم، ولأمنّينهم، ولآمرنّهم فليبتكن آذان الأنعام، ولآمرنّهم فليغيرنّ خلق الله)، نعم، لقد (استحوذ عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله)، وكانت النتيجة الحتمية لهذا الإذعان للشيطان: الخسارة الكبرى، (ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون)، (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا).
إننا بحاجة إلى الوعي بذواتنا، وإدراك مواضع قوتنا، واستشعار أننا وحدنا نتملك مرجعية أصيلة نقية سالمة من التحريف، نحن -فقط- من يمتلك البوصلة الربانية للرشاد والفلاح في الدارين، أما المرتهنون للمبادئ الأرضية، والنظريات والتفسيرات البشرية للحياة والكون، فإنهم في ضلال، إذ هي تفسيرات مبنية على القصور في الإدراك، والقصور في الوعي، والقصور عن معرفة سر النفس البشرية، ودواخلها، ومؤثراتها المترسخة فيها، وهي نظريات مشبعة بالتحيّز للميول الذاتية، والهوى، والمصالح الذاتية، إنها نظريات تفتقر إلى (الدليل الإرشادي) المرسل من الخالق سبحانه، والذي يوضح فيه طبيعة هذا المخلوق، وميوله، واتجاهاته، وما يصلحه، وما يفسده، وهو الدليل الإرشادي الذي لا يمكن العمل إلا من خلاله، وكل تفسير لا يستند إلى هذا الدليل فإنه تفسير قاصر، الخطأ فيه أكثر من الصواب.
إن الحديث عن ضرورة الانعتاق من ذلك الرق، والخروج من حالة التبعية والإعجاب، هو الخطوة الأولى في سبيل النجاح والحرية والتميز والتفوق، ليأتي بعدها فتح مجالات التفكير والإبداع لبناء فكري وثقافي وعلمي وحضاري جديد، منبثق من مرجعياتنا، مستفيد من كل معرفة لدى الآخر غربياً كان أم شرقياً، غير أن الاستفادة في بعض الجوانب ممن هو أقل منك شيءٌ، والاستلاب والنظر إليه بإعجاب وتسليم شيء آخر تماماً، ففي الحالة الأولى نحن في موضع الفحص والتقييم، ثم اتخاذ القرار، وفي الحالة الثانية، نحن في موضع القبول المطلق، والتقدير الكبير.
إننا بحاجة – على سبيل المثال - لإعادة النظر بشكل شامل في أساليب التعليم المتبعة لدينا، وطرائق المناهج، وأنواع التخصصات، وعدد السنوات، وكيفية التعلّم، وتحديد المهارات والمجالات الأولى بالعناية، وفق ما نراه نحن لا وفق ما يرون لنا، ووفق ما نحتاجه فعلياً لا وفق ما يقولون إننا بحاجة إليه، والأمر نفسه يقال في الإعلام، والإدارة، والثقافة، والأدب، والرياضة، وسائر المجالات المجتمعية المختلفة.
لقد التقيت بعدد من الخبراء الأجانب في القطاع غير الربحي، ذوي العيون الزرقاء، وسمعت و قرأت عن مشاريعهم، ووجدت أن كثيراً منها غير متسم بالتميز، ولا بالجودة، غير أنهم أحسنوا توظيف الإعلام في الإعلاء من شانهم، وإيهام الناس أن لديهم مايستحق الاحتذاء والاقتداء، وصدق الناس ذلك!.
وقد وقفت شخصياً على جمعيات إسبانية تمت زيارتها في برنامج زمالة القيادة في المنظمات غير الربحية، فوجدت عملاً عادياً بل اقل من العادي، ثم أجلت النظر في قطاعنا الخيري بالمملكة العربية السعودية، فوجدته يقدم نموذجا حقيقياً على التطوير والتحسين والتجويد والابتكارالمستمر.
لقد آن الأوان لنا لكي نتسنّم كرسي الأستاذية للعالم، ذلك أن الغربيين اليوم -وفقاً للحالة المزرية التي وصلت إليها مجتمعاتهم - في حاجة ماسة للتتلمذ على أيدينا، والتعلم منا، واتخاذنا قدوة أخلاقية لهم، فحجم السقوط الذريع الذي وقعوا فيه كبير جداً، وهو انحدار لا يعرف له قاع، يسير الواحد منهم مثل المنكّس لرأسه فلا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، فهو حري بالسقوط، والوقوع في الهاوية، (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم)، وأن لا نصدّق ما يضخمه الإعلام الغربي اليوم من عيوبنا ونقائصنا، ذلك أنه يبصر الشعرة في عيوننا، ويغفل عن الجذع في عيونهم.
وحضارتنا الإسلامية - بطبيعتها- حضارة جاذبة، ذات معانٍ، وقيم، وأصالة يمكن لها أن تنتشر اليوم بذات السرعة التي انتشر بها الإسلام في القرون الأولى، حين بلغ أقاصي الأرض، شريطة أن يتم الرجوع إلى ذات الأخلاق والمنطلقات والقيم التي كان عليها الرعيل الأول، فالعالم الذي يعيش هذا الخواء الروحي الضخم، لا يستطيع الصمود أمام روح الحضارة الإسلامية الناصعة.
وحال تلكم المجتمعات وحالنا، كما قال الشاعر:
ونحن اليوم كالأسرى بـ قيد * وفي يمناك مفتاح القياد
نعم، بيدنا المفتاح - لو أردنا- الذي يمكننا من أن نفتح العالم مجدداً بأخلاقنا وقيمنا ومبادئنا، ومرجعيتنا القائمة على الوحي المطهر، تلك الميزة التي لا يملكها اليوم أحد من العالمين.
دمتم بخير ،،،
وكتبه
محمد سعد العوشن
bin_oshan
الرياض حرسها الله
14 / 6 / 1445 هـ
شكر الله لكم مقال رائع
ردحذفمقال راااائع كتب الله اجركم استمتعت بقراءته
ردحذفما احوجنا للانعتاق فعلا ... والحديث موجه لكل فرد في المجمتمع وليس للجهات الرسمية فقط
ردحذفنفع الله بكم وبارك في جهودكم ورزقنا الله وإياكم الإخلاص والتوفيق .
ردحذف