لغة القالب

البرّ الأعمى !

 وصف النائب الأمريكي كلو دبير ذات مرّة وضع المسنين في أمريكا بأنه (عارٌ وطني مرعب) وذلك تعليقاً على دراسة لجنة من مجلس النواب الأمريكي عن وضع المسنين في بلادهم، التي أفادت بأن أكثر من مليون مسن ومسنة ممن تجاوزت أعمارهم 65عاماً يتعرضون لإساءات خطيرة، فيتم ضربهم وتعذيبهم عذاباً جسدياً ونفسياً، كما تتم سرقة أموالهم من قبل ذويهم.


وفي بريطانيا تلقت الشرطة ما يزيد على 22 ألف شكوى من والدين ضد أبنائهم خلال عام واحد!

ويتحول كثير من كبار السن في الغرب إلى دار العجزة والمسنين ليقضوا بقية حياتهم هناك، ويموتون بعيدين عن كل قريب.

والنموذج الأمريكي والبريطاني موجود ومتكرر في باقي الدول الغربية؛ إذ يخرج الشاب والشابة منذ بلوغهم الثامنة عشرة عن كنف والديهم، ويفقد الوالدان السيطرة على تصرفاتهم أو الإشراف عليهم، ويقتصر التواصل بينهم على أقل القليل، فربما احتفل الواحد منهم بعيد الأم، أو عيد الأب، ويقوم من كان منهم باراً بإرسال بطاقة تهنئة ومعايدة أو هدية يسيرة أو باقة ورد لهما في عيد ميلادهما، وربما وضع – كل بضعة أعوام – باقة من الورد على قبريهما.

ولهذا فما نعايشه في مجتمعنا المحلي – خصوصاً – من صلة بين الأولاد والآباء، وبر وإحسان واحترام وتقدير وإجلال، هو شيء مستغرب في الثقافة الغربية، وخصوصاً حين ترى الطاعة التامة لأوامر الوالدين وإعطائهم الاهتمام والاحترام اللائق بهم، ومراعاة رغباتهم، والانصياع لتوجيهاتهم حتى وإن خالفت رغبات الأولاد.

وليس غريباً أن تسود مظاهر البرّ بالوالدين في مجتمعنا، ذلك أن برهما والإحسان إليهما أمر أوجبته الشريعة؛ وهو المتوافق مع الفطرة السليمة، فهما كانا – بعد الله – سبب في وجود المرء، كما أنهما ربياه منذ كان صغيراً حتى بلغ هذه السن، وعلماه، وأطعماه، وأسقياه، وعالجاه، وكانا سنداً له في كل حين.

ويلاحظ أن (اللين واللطف، والاحترام والتقدير، والطاعة) هي أبرز ألوان البر المنصوص عليها في نصوص الشريعة، فلم تأت الأدلة بمجرد الطاعة فحسب، فجاءت الآية الكريمة بالنهي عن التأفف، ومن الخصومة معهما، ولما رأى النبي ﷺ رجلاً ومعه غلام، قال للغلام: (من هذا؟) فقال: أبي، فقال له ﷺ:(فلا تمش أمامه، ولا تستسب له، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه).

غير أن الملاحظ – في السنوات الأخيرة – أن ثمة ظاهرة سلبية آخذة في الانتشار، وهي انصراف عن أوجه البر الحقيقية المذكورة، وانشغال ببعض مظاهر البر السطحية، فيفرّط الأولاد في القيام بحقوق الوالدين، وطاعتهما، ويتأففون من خدمتهما، وربما رفعوا الصوت عليهما، فضلاً عن الانشغال التام – بحضرتهما – بالجوالات الذكية، ووسائل التواصل، فيكون الولد معهما بجسده دون روحه وقلبه، ويشعر الوالدان في فترات اللقاء التي تباعدت وقلّت بأنهما يعيشان في عزلة عن الأولاد، فلا يستمعون لأحاديثهما، ولا يجدان من يخبرانه بمشاعرهما، وقصصهما، واحتياجاتهما.

وفي الوقت ذاته تجد أن أولئك المقصرين في البر الحقيقي منشغلون ببعض الفعاليات والحفلات المؤقتة لهما، وبالتغريد عن فضلهما، ومسيس الحاجة إليهما، وبوضع خلفيات الجوال وحالاتهم في برامج التواصل مذيلة بالدعوات لهما، أو بأنهما في القلب، مع تقصيرهم الكبير في البر الفعلي؛ وهو ما يمكنني أن أصفه بـ(البر الأعمى).

إن البرّ بالوالدين – يا سادة – ليس فعالية مؤقتة، ولا حفلة مكلّفة، ولا حملة إعلامية، ولا تظاهراً أمام الناس بالبر، ولكن البر الحقيقي الذي يمكن التعويل عليه هو تحقيق رضاهما فعلياً، وأن تكون مصدر سعادة وبهجة وفرح لهما، وألا تجدهما غاضبين بشكل متكرر من صنيعك أو قولك أو تفريطك وانشغالك.

كما أن من البر بهما أن تسأل عنهما، وتلبي احتياجاتهما، وتبتسم في وجهيهما، وألا تتركهما يقومان بأعمال البيت بمفردهما، وألا تشغلهما بتفاصيل همومك ومشكلاتك ما لم يكن ذلك بهدف أخذ رأيهما أو إشعارهما بأهميتهما، وألا تجعلهما يكتمان عنك طلباً أو يترددان معك في أمر خشية من ثورة غضبك عليهما.

وما أحوجك إلى أن تراجع كل فعل أو قول تقوم به تجاههما، أو تتركه لأجلهما، وتنظر فيه إلى موقعه من (اللين واللطف)، و(الاحترام والتقدير)، و(الطاعة) لتقيّم برّك بهما، وهل هو من البر الحقيقي أم من البرّ الأعمى.

جعلنا الله وإياكم من أبر الناس بوالدينا، دمتم بخير.

محمد بن سعد العوشن

إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري

@bin_oshan
4:09 م
عدد المواضيع