الشيخ عبدالمجيد و الرحيل المفاجئ!
كان مذ عرفته متواضعاً ليّن الجانب، يحدثك بكل تواضع، ويصغي إليك بكل أدب، ينتقي ألفاظه بعناية بالغة، فلا تسمع منه - في كل أحواله- أي لفظ مشين، كان رحمه الله عفيف اللسان.
درس في كلية الشريعة، فكان نعم الطالب، وتخرج منها عام 1410 هـ ، وتعيّن ملازماً قضائياً بمحكمة الرياض، ثم التحق بالمعهد العالي للقضاء، حتى انتهت سنوات الملازمة، فتعيّن قاضياً في سبت العلاية ، عاصمة بلقرن، ثم قاضياً بالمجمعة، ثم انتقل للعمل في وزارة العدل، ومجلس القضاء،..كان الشيخ عبد المجيد بركة حيثما نزل، فآثاره الصالحة باقية، والناس تلهج بالثناء عليه، وتذكر إحسانه.
ورغم أنني انقطعت عنه سنين طويلة نظراً لتعيينه خارج الرياض، غير أنني كنت ألقاه كل بضع سنين، فإذا هو صاحبي الذي عهدته، لم يبدّل ولم يغيّر، كان على العهد الأول، فلم تأخذ السنين من حماسته الرصينة، ولا من فكره النيّر شيئاً، ولم تؤثر فيه المناصب العالية على الإطلاق.وكان للشيخ بصمات واضحات في وزارة العدل، والمجلس الأعلى للقضاء، بالعمل على مجموعة غير قليلة من الدراسات، والأنظمة، واللوائح، والزيارات، والملتقيات المهمة والمؤثرة على الحالة القضائية في المملكة العربية السعودية، كما عمل الشيخ في محاكم الاستئناف بالمدينة المنورة ثم في مدينة الرياض، وقد أشار الشيخ إلى شيء من تلك الجهود المباركة في سيرته الماتعة الرائعة الموسومة بـ "في مدارج القضاء" والتي روى فيه حياته العملية في القضاء، ولم تكن رواية للأحداث فحسب بل كانت سيرة محشوّة بالفوائد، مملوءة بالدروس المستفادة، والمعاني الجميلة، والمعلومات الثرية جداً .ومنذ تعيينه في قضاء الاستئناف، وحصوله على شيء من التفرغ في تلك المرحلة، وموضوع "التقاعد" يجول بخاطر الشيخ، فيقدم فيه رجلاً ويؤخر أخرى، حتى جاء موعد اتخاذ القرار في عام 1440 هـ بعد استخارة واستشارة متكررة، حيث تقدّم الشيخ على المجلس الأعلى للقضاء بطلب التقاعد المبكر، مبرراً ذلك بمضي ثلاثين عاماً من العمل في مجال القضاء بكل ما فيه من جهد وضغط وإرهاق، وبرغبته في الاستمرار في العمل الخيري الذي بات جزءاً لا يتجزأ من اهتمامات الشيخ وأولوياته، وخصوصاً في ظل صدور بعض التنظيمات الإدارية التي تحدّ من دور القضاة في الجمعيات الخيرية، وتمنع عضوية مجالس إدارتها من العاملين في سلك القضاء، كما أشار الشيخ إلى تبرير ثالث وهو رغبته في التفرغ لعدد من المشاريع العلمية ، التي تحتاج وقتاً أطول من أجل إنجازها، وقد رفض طلبه، لكنه أصرّ عليه، وسعى لتحصيله، فوافق المجلس في شهر صفر 1441 هـ على طلبه، وتم له ما أراد، وحصل على التقاعد، فانطلق الشيخ وعمل بكل جهده، بحيوية ونشاط وحماسة لم تفارقه منذ التحق بالعمل لأول مرّة، فإذا هو يتحدث عن الأوقاف، ولوائحها، وحوكمتها، وأنظمتها، ويواصل التحفيز عليها..
وقد طلبت منه ذات مرة أن نتفق على الأجرة التي يمكن منحها له مقابل خدماته الاستشارية لأحد الأوقاف، فرفض أن يأخذ أي مقابل على تلك الاستشارات التي يحتاجها الوقف، وتكرر معه الأمر أكثر من مرة، كان يحضر ويتفاعل، ويبدي رأيه بوضوح، مع أدب جمّ قل مثيله، ولطف في التعامل قل نظيره، وكانت سنوات التقاعد القصيرة تحكي مزيداً من العمل الدؤوب، والعمل الجاد لتحقيق الأهداف، حيث أمضى ثلاث سنوات في المجالات التي أحبّها وأرادها، فما إن اكتملت هذه السنوات بالتمام، حتى أصابه مرض مفاجئ، بعد عودته من مؤتمر الأوقاف بالمدينة المنورة، فأدخل على إثره العناية المركزة، بمستشفى الملك فيصل التخصصي، ولم يلبث فيه إلا أياماً قليلة، فكان الموت إليه أسبق، فأدركته الوفاة في يوم الأحد، الثامن من شهر صفر لعام 1444هـ، وصلّي عليه بعد العصر بجامع الجوهرة البابطين، ودفن بمقبرة شمال الرياض، وكانت الجموع التي حضرت للصلاة عليه في الجامع ودفنه في المقبرة متأثرة غاية التأثر، مصدومة من هذا الفراق العاجل، تلحظ في عيونها دموع الفراق للحبيب، وتلهج ألسنتها بالدعاء له، مرددة : إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا عبدالمجيد لمحزونون.
رحم الله الشيخ الدكتور أبا أيمن ، عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وجمعنا به في مستقر رحمته، وألهم الجميع الصبر والرضا والسلوان، وأجارنا في مصيبتنا وأخلف علينا بخير منها، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
محمد بن سعد العوشن
8 صــــفر 1444 هـ
نشرت التدوينة في صحيفة تواصل هــنــا