لغة القالب

القرقاعة


رغم مرور عشر سنوات على ذلك الحديث الجميل للدكتور محمد الصبيحي، حينما كان يدرسنا مادة "التأثير الإعلامي" ضمن برنامج ماجستير الإعلام، فإن حديثه لازال حاضراً ، و عالقاً بذاكرتي حتى اليوم.

تحدث إلينا د.محمد بكلام جميل رائع، لمشكلة شائعة، وخلاصتها : أن بعض الباحثين يقوم ببحث عادي جداً، يبذل فيه جهداً محدوداً، ويكون اطلاعه في مجال البحث سطحياً، غير أنه بعد أن يفرغ من بحثه ذلك، يتوهم أنه قد أتى بما لم تستطعه الأوائل، فيوظف الإعلام والإنترنت وشبكات التواصل لخدمة ذلك البحث اليسير وتلميع صاحبه، فيضخّمه، ويكبّره في أعين الناس، وتتم استضافته في المؤتمرات والملتقيات التي يبادر لإرسال بحثه إليهم طالباً وملحاً بتمكينه من عرض هذه المادة، كورقة عمل جديدة.

وما إن يوضع اسمه ضمن قائمة المتحدثين، حتى يشرّق بها ويغرّب، ويبلغ بذلك من عرف ومن لم يعرف، ويستعين بأصدقائه، وعلاقاته الإعلامية لاستضافته للحديث عن تلك الورقة النادرة التي أعدّها وربّما حرّف في عنوانها كل مرة لتتوافق مع موضوع المؤتمر، فيصنع ضجيجاً من اللاشيء، ويحدث جلبة من عربته التي لا تحمل في جوفها شيئاً، وهذا الصنيع يزعج الناس ويوتّر أعصابهم.

ويشبه الدكتور محمد صنيع ذلك الباحث المتصّدر بطفل اشترى له أهله قرقاعة " وتسمى أحيانأ :خشخاشة و قرقاشة" لها ضجيج غير متزن، فكلما أصبح واستيقظ من نومه، هزّها لتصدر ذلك الصوت النشاز، ودار بها في البيت كله، ولم يترك غرفة إلا ومرّ عليها، ولا نائماً إلا كدّر عليه نومة بصوتها، فإذا فرغ من ذلك، خرج إلى الشارع يجوب طرقات الحي، ويقترب من بيوتاته، وهو مستمر في هز قرقاعته، والانتقال إلى إزعاج الحي كله، ولذا عرف بها القاصي والداني، ووصل ضجيج صاحبها لكل بيت، مع أنه لا يملك إلا لعبة تافهة ليس لها معنى، ويصدر بها أصواتا نشازاً غير ممتعة ولا متسقة.

بينما يكون لباحث متميز ، بحث علمي متقن، بذل فيه الجهود المتواصلة، ولمدة غير قليلة، وطبق فيه الكثير من الأدوات البحثية، واستعان على بحثه بمراجعة مئات البحوث والدراسات السابقة، وتوصل من خلاله إلى نتائج نوعية، وواصل جهده العلمي بعد البحث، ليحيط بالموضوع من كل أطرافه، ويلتقي بكل الخبراء في مجاله، ويحدّث معلوماته في كل مرة، وقد نشر البحث في مجلة علمية، وتحدث عنه مرة واحدة في مؤتمر وثيق الصلة بموضوعه، بناء على إلحاح من اللجنة العلمية للمؤتمر، وهو مع ذلك متسم بالهدوء فلم يشغل الناس، ولم يجعل نفسه نادرة الزمان.

ويشبهه دكتورنا الفاضل بصاحب (فرقة موسيقية) مكتملة تمتلك أدوات موسيقية متعددة ومتنوعة ومعقدة، وفريق متقن لاستخدامها، مدرب على نوتات مكتوبة، تم تدريبه عليها أياماً طوالاً، ومع ذلك لا تسمع له في الحي ضجيجاً، فهذه الفرقة تقوم بالعزف في مناسبات محدودة، وبشكل نادر، ولا يسبب ضجيجاً وتشويشاً.

فما بين هدوء صاحب الفرقة الموسيقية، وضجيج صاحب القرقاعة تكمن المفارقة الكبرى.

وفي ظني أن هذا التشبيه ينطبق على أقوام آخرين غير الباحثين، فثمة من يعملون على مشاريع أو مواقع أو تطبيقات أو كتب أو يعملون في منظمات وإدارات محددة، فيحققون إنجازاً يسيراً رغم طول مسيرتهم المهنية، فما إن يحققوا ذلك الإنجاز "الموهوم"  أو "الصغير" إلا ويبادرون إلى تفعيل وضع "القرقاعة"، فيبدأون في توظيف الماكينة الإعلامية للإشادة بهذا الصنيع الذي لم يره إلا هم، ويعلنون في كل محفل أنهم حققوا ذلك الإنجاز، ويحتفلون به مرة بعد مرة.

ومهمتنا أن نخاطب أصحاب القرقاعة بأن يخفّوا علينا، ويتوقفوا عن مواصلة الإزعاج، وأن نوضح لهم أن ما صنعوه لا يستحق ذلك الضجيج، لأنهم أحياناً يكذبون الكذبة ثم يصدّقونها، ويكونون كحال أشعب الذي أشغله الأطفال ومحبي الولائم، فضاق بهم ذرعا وكذب عليهم، وأشار إلى منزل بعيد زاعماً أن فيه وليمة كبيرة، فلما رآهم يتسابقون للمكان ولا يرجعون ظنّ أن الأمر حقاً وتبعهم لمكان الوليمة المزعوم. 

إننا مطالبون بالاتزان دوماً، ووضع الأمور في نصابها، والاحتفاء بالإنجازات الحقيقية بالقدر الذي يليق بها، وكبح جماح محبي الصعود دون إنجازات حقيقة، أو الذين يعيشون على إنجاز سابق أكل عليه الدهر وشرب.

دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

الرياض - حرسها الله -

24 ذو الحجة 1446


2:26 م

عدد المواضيع