أقيلوا ذوي الهيئات
ورد في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله :(أقيلوا ذَوي الهيئاتِ عثَراتِهم إلا الحدودَ) أخرجه الإمام أحمد، والنسائي في السنن الكبرى، وصححه الألباني
وذوي الهيئات هنا يراد بهم أهل المروءة والخصال الحميدة من عامة الناس، الذين اشتهرت عدالتهم، ولكن زلت في بعض الأحايين أقدامهم، ومعنى الحديث : استحباب ترك مؤاخذه أولئك إذا وقع الواحد منهم في زلة أو هفوة لم تعهد عنه.
ويستثنى من ذلك ما كان حداً من حدود الله تعالى وبلغ الحاكم فيجب إقامته على الفاعل كائناً من كان، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله "والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله تعالى خصّهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، وأديل عليه شيطانه فلا نسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته " .
وقد قدّم النبي ﷺ أنموذجا روته كتب السنة، يوضّح كيفية التعامل مع من له سابقة في العمل الصالح و الإحسان، وهي قصة يحسن بنا الوقوف عندها طويلاً، فعن عبيدالله بن أبي رافع، قال سمعت عليا يقول: بعثني رسول الله ﷺ أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة – امرأة- معها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله ﷺ، فإذا فيه: "من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ"، فقال: يا حاطب، ما هذا؟ فقال: يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقا –حليفا- في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا – معروفاً- يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: «أما إنه قد صدقكم»، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق؟ فقال: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأنزل الله سورة: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة).
فانظر إلى ما فعله حاطب رضي الله عنه من مخالفة جلية، وخطأ كبير، غير أن سابقته في الفضل، ومشاركته في غزوة بدر الكبرى، جعلت النبي ﷺ يعفو عنه، ويتجاوز، وكذلك أمر الله تعالى (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، وفي الحديث عن النبي ﷺ ( إذا بلغ الماء قلتان لم يحمل الخبث)، فالنجاسة اليسيرة حين تقع في الماء الطاهر الكثير لا تحوله إلى ماء نجس، بل يتغاضى عنها، والأمر ذاته يقال عن الأشخاص الذين لهم أعمال مميزة، وإنجازات متواصلة، ثم يقع منهم الخطأ، فيدفن في أكوام حسناتهم.
وكان الذهبي رحمه الله يسلك هذا المسلك في التعامل العادل مع الرجال والمشاهير، وذلك في كتابه "سير أعلام النبلاء" فهو لا ينسى فضائل الأشخاص حين يستعرض سيرتهم، بل يعاملهم بالعدل، ويذكر إحسانهم وإساءاتهم بقدرها.
وفي مسيرنا على خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة، وسلف الأمة من بعدهم، فإننا مأمورون بان نحول تلك النصوص إلى واقع عملي، ونطبقه في واقعنا، ونتريث حينما نسمع بتلك العثرات من ذوي الهيئات، ونحسن الظن، ونلتمس العذر، ونقيل العثرة، ونكون عوناً له لا عليه، ونكف عن جعل تلك العثرات وسوماً على شبكات التواصل، وسميراً لجلسات الأنس والاجتماعات.
من ذا الذي ما ساء قط * ومن له الحسنى فقط
دمتم بخير ،،،
محمد بن سعد العوشن
الرياض حرسها الله
1 – 7 – 1445 هـ