10:20 م

القول على الله بغير علم


من الظواهر الخطيرة التي كانت ولا زالت موجودة في مجتمعات المسلمين، متدينهم وفاسقهم : جرأتهم على الفتيا والقول على الله ورسوله وإصدار الأحكام الشرعية دون دليل أو أثارة من علم.
وتأتي هذه الأقوال الباطلة تحت ذرائع شتى، حيناً باسم الدفاع عن الدين وحمايته من الأعداء وحيناً  باسم الدعوة للإسلام وحينًا بحجة أن الإسلام ليس فيه كهنوت أو رجال دين، وأنه يمكن لكل مسلم أن يفهم الإسلام بالرجوع إلى الكتاب والسنة.

وهي أن كانت مقاصد حسنة في الجملة ونوايا أصحابها في كثير من الأحايين طيبة، لكن حسن النوايا ليس ملازمًا لحسن العمل، فرب حسن النية فاسد العمل، ورب حسن العمل فاسد النية.
ولعل من خير ما يقال في هذه المسألة: أن القول على الله تعالى بغير علم محل ذم ونهي مطلق يتجلى ذلك في كتاب الله وسنة رسوله بشكل واضح لا لبس فيه، ومن ذلك قول الله تعالى ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) [النحل: 116]. قال ابن سعدي: لا تحرموا وتحللوا من تلقاء أنفسكم كذبًا وافتراءً على الله وتقولاً عليه.
إن التحليل والتحريم في واقع الأمر هو : نسبة الحكم له تعالى، فالقائل بتحريم شيء ما إنما يقول في الحقيقة (إن الله تعالى حرّم عليكم كذا) وإن كان الكذب على المخلوقين ونسبة الأقوال إليهم دون دليل يعد مذمومًا وافتراءً فكيف إن كان القول المكذوب منسوبًا إلى الجبار عز وجل؟

ولذا كان من الواجب والحالة هذه التورع عن التحدث باسم الله تعالى في الأمور الظنية الثبوت، وعدم التضييق على الناس بحكاية تحريم شيء ما، ما لم يكن الحكم مستقينًا لدى الناقل له مستحضرًا الأدلة ولو على سبيل العموم والإجمال.
وأن السكوت عن بيان الحكم الشرعي ـ في حالة الجهل به ـ أمر لازم، والنطق بالفتيا بدون علم "منكر مستقل بذاته" يوجب الإنكار فكيف تزيل ما تظنه حراماً ـ سواءً كان ظنًا ضعيفًا أو غالبًا ـ بارتكاب ما هو محرم ثابت التحريم بالأدلة الشرعية؟
ولا يضر المرء أن يمسك لسانه عن الفتيا ـ مع عدم وجود العلم ـ بل إن السكوت واجب في تلك الحالة، مع أهمية السعي في طلب العلم عمومًا في المسائل التي يعايشها المرء في حياته.

* الدوافع :
وثمة دوافع وأسباب متعددة للفتيا بغير علم، فمنها حبّ الظهور وحبّ الإدعاء بسعة العلم، ومنها الرغبة في فرض الرأي وما تميل إليه النفس تحت ذريعة الحكم الشرعي، ومنها الفهم القاصر للأدلة الشرعية، ومنها عدم معرفة الخلاف بين العلماء ومبرراته، ومنها الجهل بالغة العربية، أو الحوادث التاريخية. ومنها التصدي للقيادة أو الإمامة بالناس ومنها الرغبة في عدم الظهور بمظهر الجهل أمام الناس، وهي أسباب كثيرة يجمعها الضعف في العلم الشرعي والجهل بأصول الفتيا، وعدم معرفة قواعد الشريعة وأسسها.
ولو استطردنا في ذكر أقوال أهل العلم، أو جمع النصوص الشرعية الناهية عن القول على الله بغير علم لكان ذلك في مجلد كبير، لكن المقصود هنا أن يعلم المرء أنه (كم من كلمة قالت لصاحبها دعني)، و( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفًا)، وإذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين رأوا رسول الله وعاصروا نزول الوحي وكانوا أقرب الناس إلى الرسالة ومع ذلك كان يتدافعون الفتيا، كلهم يحاولوا أن لا تكون من نصيبه خوفًا من الخطأ في دين الله أو الفتيا بغير علم.

 وإذا كان أحد أكابر العلماء يأتيه السائل المستفتي من مكان بعيد يسأله عن عدد من المسائل فيجيب عما يعرف ويقول في أربعين مسألة: (لا أدري!) فكيف بمن دون أولئك الرعيل الأول علمًا وإيمانًا وورعًا!

لذا كان جديرًا بنا جميعًا كف اللسان عن التحريم أو التحليل بغير علم، والطف عن استباحة الأعراض أو الأموال أو إطلاق الأحكام بالتبديع أو التفسيق أوالتكفير جزافًا، وترك ذلك لمن كان له علم بالشريعة واطلاع على نصوص الوحيين والأصول والقواعد الشرعية. والحمد لله رب العالمين.

كتبته في 15-2-1426هـ

0 التعليقات:

إرسال تعليق