لغة القالب

إدمان المسار الأيســر


ثمة عملية يسميها علماء النفس "الاستبطان" وهي محاولة إجراء المراقبة الذاتية للنفس، ومشاهدتها كطرف خارجي ينظر للمشهد باستقلال، وينظر في السلوكيات التي تقع، وكيف تقع، وماهي وتيرة تكرارها، وما ظروف وقوعها.

وقد تأملت في حالنا اليوم، واستبطنت نفسي متأملا سلوكها، فوجدت أنني وكثير من الناس نقع في فخ "السرعة"، وأننا نعيش يومنا وليلتنا مسرعين، وكأن هناك من يلحق بنا، ويوشك على الإمساك بنا، فترانا لا نكاد نلتقط أنفاسنا بعد إنجاز مهمة عاجلة، حتى نلهث سعياً وراء المهمة التالية العاجلة كذلك، فكل شيء أصبح "عاجلاً".

 نستيقظ من فراشنا فنتجهز سريعاً لإدراك عملنا الوظيفي، ونسرع نحو سياراتنا، ثم نسابق الزمن ونبقى طيلة الطريق في المسار الأيسر، وكلما وجدنا في الطريق فسحة أسرعنا إلى أن نصل للسرعة القصوى المسموح بها، إن لم نجاوزها، ثم نسرع نحو هذا الاجتماع أو ذاك، ونسرع في تناول قهوتنا لكيلا نتأخر عن الموعد التالي، ونفعل الشيء ذاته في طعام الإفطار إن لم نكن قد تناولناه سراعاً قبل الخروج أو أثناء قيادة السيارة!

صرنا مولعين بالسرعة .. بالطرق السريعة، والوجبات السريعة، والمسارات الأسرع.. والاجتماعات العاجلة، والاتصالات العاجلة، وأوقات الأكل والشرب والقهوة العاجلة، والكتابات العاجلة، وحتى زيارات الأقارب وذوي الرحم أصبحت تتم على عجل، وطفقنا عند مشاهدة المقاطع المرئية أو سماع الرسائل الصوتية إلى استخدام خاصية التسريع لها، وصرنا نشعر بالملل والسآمة من أي وقت للانتظار، ونبحث دوماً عن وسائل للتسريع والتعجّيل بكل شيء.

هذه السرعات المتتالية، والعجلة دون توقف، يمكن تفهمها في ظرف استثنائي قصير جداً، وفي حالات طارئة محدودة الزمان والمكان، أما أن تكون سلوكاً مستمراً، ونمطاً للعيش، فذلك لون من ألوان الكدّ والنكد، وهو من مسببات التعاسة والألم، فالهدوء والتريّث والسكينة وعيش اللحظة يعني أن نمضي وقتنا - عملاً كان أم لهواً - على مهل، وبمزيد من التأمل والملاحظة لما حولنا، وأن ندرك أن الأعمال لن تنتهي، وأن المهام المنقضية، سيتلوها على الفور مهام أخرى في قائمة الانتظار.

جرّب في اليوم التالي أن تكون متريّثاً، فإذا سلكت بسيارتك طريقاً ذا مسارات، فاجتنب المسار الأيسر واتركه للمسرعين، والتزم بالمسار الأوسط، وسر وفق أقل سرعة يسمح بها الطريق، ولا تنس أذكارك وأنت تقود بهدوء، وأوقف سيارتك بهدوء في مكان مناسب وإن بعد عن مكان عملك، وسر بتؤدة نحو مكتبك، وأخرج مذكرة وقيّد فيها أفكارك وما يجول بخاطرك مع بداية اليوم، أو اقرأ كتاباً تحبه، في دلالة على "الروقان" وعدم العجلة، وأنجز أعمالك بإتقان وبدون إسراع، راجعها جيداً، وتصفح المعاملات بكل هدوء وسكينة، وحينما يقترب وقت الصلاة، اذهب وتوضأ على مهل، وسر إلى المسجد فلا تأتِ إلى الصلاة سعياً، وصلّ النافلة بكل هدوء وطمأنينة، وافتح المصحف واقرأ آيات القرآن قراءة متريّثة متأملة متدبرة، لا تسع فيها إلى نهاية الصفحة، وصلّ مع الجماعة صلاة مودّع، ثم اقرأ الأذكار بعد الصلاة متأملاً في معانيها دون إسراع، ثم صلّ النافلة البعدية، وحينما تنتهي، قم من مصلاك وتحرك بكل هدوء، والبس حذائك على مهل، وسر نحو مكتبك أو سيارتك بكل سكينة وسعة بال، متأملاً في البناء، والناس، والأجواء، ومتأملاً متفكراً في نفسك وجسدك وروحك. 

واصل مسيرة التريث يومك كلّه، وانظر إلى آثار ذلك الهدوء على نفسك وعلى جسدك.

والأمر نفسه يقال للزوجات، والأمهات، والطلاب والطالبات، راجعوا أسلوب عيشكم، واعلموا أن الأعمار تمرّ، ونحن نركض بانتظار الانتهاء من المهام، وهو الأمر الذي لا يحصل.

إننا – جميعاً - منخرطون في عجلة "العجلة" دون أن نشعر، حتى بات المسير بهدوء غير مألوف، لقد أدمنّاها فحسب، وما أحوجنا إلى انتزاع أرواحنا من هذه الإدمان السيء، رغم الآثار الانسحابية التي سنشعر بها، أو يشعر بها من حولنا من جراء ذلك، لكنها آثار مؤقتة سرعان ما تزول حينما نعتاد على السكينة، ويكون مشينا كما قال الشاعر "مشي السحابة لا ريث ولا عجل".

دمتم بخير ،،،  

محمد بن سعد العوشن    16 / 3 / 1447 هـ


9:16 ص

عدد المواضيع