عمي إبراهيم في موكب الراحلين | محمد بن عبدالعزيز العوشن
هذه إلماحات سريعة من سن القلم ، عن ذلك العم الحاني والأب الثاني (إبراهيم بن محمد بن عبدالرحمن العوشن*) ، أسطرها بمداد من دمع ، وحبر من لوعة :
(1) كنت خارجاً وإياه من إحدى الاستراحات متأبطاً ذراعه في عام ( ١٤٣٥ ) ، فسألني قائلاً :
وأنا عمك، أنا من مواليد عام ( ١٣٥٨ ) فكم يكون عمري الآن ؟
فيكون - رحمه الله - قد عاش ( ٨٧ ) سنة ، جعلها الله شاهدةً له .
والمدون في أوراقه الرسمية أنه من مواليد ( ١٣٥٧ )
(2) ولد في شقراء، وكان مرتع صباه في الطائف .
وتوظف عسكريًا في تبوك، ثم انتقل مؤقتاً إلى جدة .
إذ توفي ابوه وهو في صغره ، فكفله أبو الأيتام عمه إبراهيم العوشن - أنزل الله على قبره شآبيب الرحمة والرضوان - ولما شب عن الطوق يمم وجهه شطر تبوك موظفاً مع خال الملوك : الأمير خالد بن أحمد السديري - نور الله قبره وأعلى في الجنة قدره - مصاحباً هناك لشقيقه عبدالعزيز - رحمه الله - ، وعديله حمد العنقري -أطال الله بقاءه على عمل صالح-
(3) تزوج مرتين :
من ابنة عمه عبدالعزيز : خالتي نوره شقيقة والدتي، ولم تنجب منه.
ومن ابنة عمه إبراهيم : هيله - رحمهم الله أجمعين-، فأنجبت له أربعة أبناء ، وابنة.
(4) التحق - أولاً - بالسلك العسكري ، وكان ضابطاً برتبة ملازم أول في تبوك ، ثم انتقل إلى الرياض ، وترك العسكرية ، وتعين موظفاً في وزارة الزراعة حتى تقاعده .
(5) كان رحمة لأرباب المزارع ( الفلاليح ) ، فكان كثيراً مايقوم بخدمتهم ، وإزالة الأعباء التي قد تعترض مسيرة هذه المزارع .
جاءني رجل بقمي من : تربة البقوم في عام ( ١٤١٢ ) وأنا لا أعرفه ، لكنه صاحب سمت وديانة ، وكان ظاهر الوضاءة ، فسألني : وشو منك إبراهيم الذي يعمل في وزارة الزراعة ، فقلت له : عمي ، فقال لي هذا البقمي : نبي منك فزعة ، نبي منه يزيل عنا مخالفة ، فخرجت لعمي من عملي ، وكنت حينها موظفاً في : الرئاسة العامة للهيئات ، متأبطاً طلب هذا الرجل القادم من : تربة ، فدلفت عليه في مكتبه ، وكان مليئاً بالمراجعين ، فلما رآني هب من كرسيه متعجباً من مجيئي ، فأخبرته بالحاجة ، فغاب عني قريبًا من الساعة ، ثم عاد لي ، وقال : أبشرك ( شلناها عنه )!
ومن هنا تعرف من أين وصلت إلى أبنائه - بلا استثناء - صفة التفاني في الإحسان إلى الآخرين ، والسعي في إتمام حوائجهم .
(6) لم يكن مرضه الأخير جديدًا عليه ، فمنذ شبابه وهو يشتكي : قرحة المعدة ، ثم تعافى منها بعد ذلك - ولله المنة - جعل الله كل ذلك مكفراً لسيئاته .
(7) كان اجتماعياً إلى أقصى درجة , يفرح بالمناسبات واللقاءات ، ويشارك فيها بفعالية ظاهرة ، إلا أنه منذ خمس سنوات أحجم عن ذلك لظروفه الصحية ، ومع ذلك كان بيته ( قبلة ) وموئلاً ، يستقبل كل وافد عليه بابتسامته المعهودة .
(8) كان محباً لأسرته ، استشارني في أمرِ تلبية رغبة أبنائه ، وبالتالي انتقاله إلى شمال الرياض ، ليسهل على أبنائه أكثر : القيام على شؤونه ، وزيارته كل يوم ، خاصة بعدما فقد زوجتيه ، فأيدته على ذلك ، وقلت له : افعل وبلا تردد ، فلم يزد على أن قال : ( فرقى الجماعة _ وأنا عمك _ صعبة علي ) !!! ، فعلمت أنه لن يفارق جماعته ، ولو منحته الدولة بيتاً بالمجان في أرقى أحياء الرياض .
(9) في العامين الأخيرين كان يشعر بضيق في نفَسه _ أحياناً - ولم يكن يشتكي لأحد ، وتبين بعد ذلك أنه مصاب بتليف في الرئة فصار يحتاج إلى راحة دائمة ، وكان يتقلل من الحديث والكلام ، إلا حينما يُتكلم معه عن مرتع صباه : مدينة الطائف ! فيصيبه نوع نشاط وأنس وسرور وسعادة ، ويبدأ يتحدث ويستطرد ، ثم يشعر بشيء من الجهد ، فيتوقف .
(10) كان جهوري الصوت ، يحرص على إقناع محاوريه بوجاهة رأيه ، وصواب وجهة نظره ، فيظن من لايعرفه أنه حاد الطبع ، ومن شاهد سرعة دمعته ، عرف رقة قلبه ، ولين طبعه .
(11) في آخر زيارة قمت بها له ، وكان معي - كالعادة- بعض أبنائي ، فلما تشرفوا بالسلام عليه ، وتعريفه بأسمائهم ، قال له ابني عبدالوهاب ( ١٤ عامًا ) : أنا عبدالوهاب ، فقال له عمي - رحمه الله بشيء من الابتسامة : عبدالوهاب ، أظن ما في الأسرة من يحمل هذا الاسم سواك .
(12) عندما دخلت مغسلة الموتى لمهمة تغسيله ، وكان ذلك بحضور أبنائه كلهم ، استأذنت ابنه الأكبر محمداً أن يضع على جسده الطاهر شيئاً من دهن العود الذي كان بحوزتي ، فأذن لي - شكر الله له - ، فكان هذا الطيب آخر ما مس جسده .
اللهم ارفع درجته في عليين ، واجعله من ورثة جنة النعيم ، واخلفه في عقبه في الغابرين ، واغفر لنا وله يا رب العالمين ، وافسح له في قبره ونور له فيه .
قاله بلسانه وكتبه ببنانه : أبو عبدالعزيز، محمد بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن العوشن
_______________________________
* توفي الفقيد إبراهيم العوشن رحمه الله يوم الثلاثاء التاسع من شهر رمضان 1445 ، وصلي عليه بعد صلاة الظهر من يوم الأربعاء 10 رمضان في جامع المهيني، ودفن بمقبرة "شمال الرياض".
وكتب هذه المعلومات القيمة ابن أخيه، محمد بن عبدالعزيز العوشن.
قال محمد بن سعد العوشن:
ومجاورتنا لأبي محمد ما يزيد عن أربعين عاماً في حي الجرادية بالرياض، ثم حي السويدي، ثم حي السويدي الغربي تجعلني أشهد على ما يقوله ابن أخيه، وأزيد:
كان أبا محمد حمامة مسجد، ملازماً لصلاة الجماعة، يسلم ويهش ويبش، ويتفقد أحوالهم، ويسأل عن الغائب منهم.
كما كان يتفقد شارعنا، وينتبه لأي خلل ويوصي بإصلاحه، ويغلق أبواب بيوتنا إذا وجدها منسية دون إغلاق.
كما كان رحمه الله معتنياً بمظهره وهيئته عناية تجعله مميزاً حيثما حل، كما كان لعطره "دهن الورد الطائفي" رائحة زكية عطرة، يجدها كل من اقترب منه أو سلم عليه، وتبقى في اليد منه دليلاً على أنك سلمت على هذا الرجل المميز، فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وجعل في ذريته البركة من بعده.
10:33 م