الاستعداد للرحيل!
ولست هنا بصدد الوعظ بالموت، أو ذكر شيء من تفاصيله، لكنني أتحدث هنا عن مدى جاهزيتنا له، وقيامنا بالمهام التي لن يقوم بها – غالبا – سوانا، كنوع من الاستعداد للرحيل، حيث يعدّ تأخيرها والتفريط فيها مدعاة لجلب المتاعب لمن حولك، وعدم تحقيقك لمراداتك.
وقد راق لي عنوان كتاب أجنبي مترجم، عنوانه (التأهب للرحيل) لمؤلفته السويدية "مارغريتا مغنوسون"، حيث أشارت إلى أن الكتاب يمثل ما اسمته المؤلفة ( الطريقة السويدية في تحرير الأقرباء من فوضى حياتك بعد الموت)، فاقتنيت الكتاب فرحاً جذلاناً طامعاً بان أجد شيئاً كثيراً حول الموضوع، لكن سرعان ماخيبت المؤلفة ظنوني، ووجدت الكتاب – من وجهة نظري – أضعف بكثير مما توقعته، ذلك أنه نتاج بيئة مختلفة عنا، مغرقة في تفاصيل محددة غير ذات صلة بيئتنا ومجتمعنا، وإن وجدت جملة من المشتركات بيننا وبينهم.غير أن الذي راق لي بحق، هو الفكرة ذاتها، بغض النظر عن تفاصيل الكتاب!.
فالمبدأ الرئيس في الكتاب يتحدث عن أن الواحد منا حينما يقبض الله روحه، فستبقى بعد رحيله الكثير من المتعلقات به مما يتطلب قراراً في التعامل معها، فتجهيزاته، وبياناته، وأوراقه، ووثائقه، وألبوماته، وكتبه، والحقوق التي له أو عليه، كلها تحتاج إلى قرارات كثيرة، وجهد متواصل لإنهائها، وفضلاً عن تكليف الآخرين بتلك المهام وإشغالهم بها، فإن الكثير منها لن يتم التعامل معه بالشكل الذي يريده المتوفي، أو يؤمله.
ولهذا فإن الاستعداد للرحيل يعني : قيامك بحل الواجب بنفسك، بدلاً من ترك الأمور للآخرين، فأنت أفضل من يمكنه فلترة البريد ورسائل الجوال، ومحادثات وقروبات برامج الاتصال والإرسال، فضلاً عن الحسابات المتعددة في شبكات التواصل ولدى المنصات والشركات على اختلافها وتنوعها.
الاستعداد للرحيل يعني اقتطاع أجزاء منتظمة من وقتك وتخصيصها لتلك المهمة: الفرز والتصفية واتخاذ القرارات، فهي فرز للمحتوى من حيث نوعه ( نصوص ، صور ، أثاث، ملابس، ذكريات، أجهزة، وثائق، ... غيرها)، ومن حيث طبيعته ( تخصك ، تخص الآخرين)، ومن حيث خصوصيته ( خاصة جداً، خاصة، عامة)، ومن حيث أهميته، ومن حيث الحاجة له ( حاجة حالية، إرشيف احتياجات سابق) وغير ذلك من التصنيفات.
وبالجملة فإن المطلوب من كل واحد منا أن يبادر إلى التخفف مما لديه، والتصرف في كل مايمكن التصرف فيه، إما بالبيع أو الإهداء أو التبرع أو بالرمي أحياناً، كما أن عليه أن يضع خارطة الطريق المناسبة لمن بعده لكي يحسنوا التعامل مع تلك الأشياء ولا يقعوا في الحيرة تجاهها.
وربما كان لدى الواحد منا عدد من الأجهزة، ووسائل التخزين الفعلية والسحابية، والكم الكبير من المحتوى هنا وهناك، وقد استغرق جمعها وتخزينها سنوات عديدة، مما جعل الكثير من ذلك المحتوى بلا أهمية، فالمبادرة بالتخلص، وتصنيف المحتويات يعين بشكل كبير على إدارة ملف الوفاة بشكل أكثر فعالية ونضجاً، وعليك ان تثق ثقة تامة بأنك إن اعتذرت وتذرعت بعدم وجود الوقت الكافي لديك لأجل القيام بتلك المهمة المهمة، فإنني أؤكد لك ان احتمالية قيام الآخرين بالمهمة بعد رحيلك ستكون أضعف بكثير، فلدى الناس ما يشغلهم ويستهلك أوقاتهم، وليس لديهم الدافعية التي لديك.
ولعل هذا يتفق مع مشروعية الوصية المشار إليها في قوله ﷺ: ( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) رواه الشيخان، فالوصية أمر مشروع، وخصوصاً في الحقوق المالية التي على المرء، سواء كانت حقوقاً عليها وثائق وإثباتات أم ليست كذلك، فلا تبرأ ذمة المرء حينما يموت وعليه ديون لم تسدد، ولا عذر للمرء في كتابتها وتقييدها، كما قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ).
ختاماً ، انهض من مكانك، واكتب مباشرة قائمة بالتصنيفات الرئيسة لما تملكه من أمتعة ومتعلقات، وحدد أوقاتاً للفرز والتصنيف والتصرّف، وابدأ العمل بشكل منتظم دون عجلة، فإن الاستمرارية هي العنصر الأهم، وأوصيك : تخفف ثم تخفف ثم تخفف، وحدد كيفية التعامل مع كل ما تملك، لتكون بذلك قد ضمنت كيفية العمل مع تلك الأشياء، ورفعت عن كواهل أهلك وذويك عبئاً كبيراً غير محتمل، وضمنت أفضل استفادة من ممتلكاتك.
أما الخبرات والمعلومات والمعرفة التي في ذهنك، فلها حديث آخر، وتدوينة تالية تحاول ان تساهم في نقل تلك المعرفة للآخرين وتوريثها، وهو ما يشير إليه كتاب " مت فارغاً" لمؤلفه تود هنري.
أطال الله عمرك على صحة وخير عمل، وبارك لك فيما آتاك، وجعلك من المباركين.
محمد بن سعد العوشن
الرياض – حرسها الله –
23 جمادى الثانية 1446