10:51 ص

النوم المطمئنّ

يأتي وقت النوم في نهاية كل يوم ليكون أشبه بكشف الحساب لكل واحد منها عما فعله خلال تلك الأربع وعشرين ساعة الماضية، وما قصّر عن فعله في الوقت ذاته.

فحين يستلقي المرء على فراشه، ويأوي إلى سريره، ويضع رأسه على وسادة النوم، فيكون الجسد في مرحلة من الإرهاق قد خارت قواه، وانتهت طاقته، وحان وقت راحته وسكونه، حينها: يبدأ الدماغ في ممارسة المهمة الأخيرة قبل النوم، وهي المهمة الصعبة!

إنها مهمة الاسترجاع السريع لمشاهد وأحداث اليوم، وحين يبدأ الاستعراض السريع جداً، فإنه يتوقف فجأة عند بعض تلك المشاهد، فيعيد المشهد مرة واثنتين وثلاثاً، وربما استمرت إعادة التشغيل وكأن خللاً ما أصاب جهاز التسجيل فاستغرق في الإعادة وراء الإعادة..

هنا يأتي حديث النفس، ليكشف عن المخبوء، عن نقاط الألم والحسرة، عن مواضع الوجع، عن الأقوال والأفعال التي أوجعتك، ومرت سريعة وحاولت تناسيها في وقتها، لكنها جاءت في ختام اليوم متأبيّة على النسيان، ثم تأتي تلك الأقوال والأفعال التي أوجعت بها الآخرين، تأتيك لتسائلك عما حملك على ذلك، وكيف طاوعتك نفسك أن تصنعها، وتذكرك بأن أولئك الآخرين هم  الآن – مثلك – يستعدون للنوم، لولا ذلك الألم النفسي الذي يسيطر عليهم من جراء صنيعك.

ويأتيك في الوقت ذاته أفكار وتساؤلات عن حياتك، ووقتك، ومالك، وعملك، وأهلك، حسب آخرهم وروداً، أو ملاقاة..

ولذا فإن الذين ينامون سراعاً هم أولئك الذين يخلدون إلى فرشهم في نهاية اليوم وقد قاموا بمهامهم وأدوا واجباتهم، ولم يظلموا أحدًا، ولم يعتدوا على أحد، إنهم أهل “الإحسان”، ولذا لا عجب أن يكون نومهم نومًا عميقًا مطمئنًا، فـ (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)؟

ذلك أن أحد أهم أسباب التكدير الذي يحيط بالناس قبيل نومهم أن يشعروا في قرارة أنفسهم أنهم واقعون في الخطأ، موغلون في الذنب والتقصير تجاه الله تعالى أو تجاه أحد من خلقه، فتأتي النفس اللوامة وتكرر على صاحبها: لم فعلت هذا؟ لم ظلمت هذا؟ لم قلت هذا؟

ولذا فإن الحرص على تجنب المظالم، والسعي وراء اللقمة الحلال، وأداء الحقوق والواجبات، وصلة الرحم، والقيام بحق الله تعالى، من شأنه أن يرزق المرء السكينة والهدوء وراحة البال، ويجعل نومه هنيئاً مريحاً طيباً.

وإنني أدرك وأنا أقول هذا أن بعض ذلك الألم ربما يكون ألما يصيب “المظلوم” لا الظالم، و “المؤذى” لا “المؤذي”، والذي يمنعه الألم النفسي غالباً من الخلود إلى النوم، ويؤرقه التفكير في “الانتقام”، والدعاء المستمر على ظالمه، وتذهب عليه الأوقات في تضخيم الألم وتعظيمه، وتفاصيل الوجع، وجزئياته، والوصية لهذا وأمثاله: أن يسلك مسلك تسهيل الأمور، وتهوينها، والتماس الأعذار والتبريرات للطرف الآخر متى أمكن ذلك، وإحسان الظن بالمقاصد وإن لم تصب الوسائل، فإن ذهابك لفراشك وليس في قلبك غلّ على مسلم، مدعاة للسلامة النفسية والجسدية معاً، فسلامة الصدر، والعفو، والتسامح، كلها مبعدات للأرق، مذهبات للأفكار المزعجة التي تحول بينك وبين النوم المستغرق العميق اللذيذ، فطهر قلبك وابشر بالخير، وتيقن أن راحتك من أعظم ما يغيض عدوّك، وأن التجاهل، والعودة إلى اليوم التالي بكل نشاط وكأنك من النوع الذي لا يكسر، هو أفضل رسالة يمكنك إيصالها.

ولنكرر تلك الدعوات العظيمة التي يدعو بها المؤمنون ربهم :(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم)

ولنتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لأصحابه ثلاث مِرَار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنَّة، وفي كل مرة يطلع لهم ذات الرجل، فأوى إليه أحد الصحابة لينظر في ما يعمل ليقتدي به، فلم يره يعمل كثير عملٍ، فسأله: ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه.

وسوف تدرك حقيقة ما أقول عن تجرّبة العيش وفقًا لمبدأ (أداء الحقوق وترك المظالم والتغاضي عن الأخطاء)، في حجم السعادة والهناء، والهدوء والاسترخاء التي تشعر بها كل ليلة حين تأوي إلى فراشك، حيث المقياس الختامي لطبيعة يومك، وكيفية تعاملك مع أحداثه بحكمة واتزان.

متمنياً لكم أياماً سعيدة، وليالي هانئة، ونوماً عميقاً مشبعاً…

دمتم بخير

محمد بن سعد العوشن

@bin_oshan

تم النشر في صحيفة تواصل من هــنــا

0 التعليقات:

إرسال تعليق