التحوّل إلى المنظمة المؤسسية!
في سعيها نحو عمل إداري منظم وتحت شعار أفضل الممارسات، وتقليداً لبعض سلوكيات كبرى المنظمات، وتنفيذاً لما توصي به بعض الكتب أو المحاضرات في هذا الشأن، تندفع المؤسسات والمنظمات نحو وهم كبير يجعلهم يشعرون أنهم بتحقيقه قد نالوا أعلى الرتب وحققوا غاية التميز، فتفخر به المنظمة باعتباره أحد أهم منجزاتها، ويفخر بها قادة تلك المنظمات باعتباره إنجازا عظيماً في المنظمات التي استلموا زمامها، فأحسنوا قيادتها ونقلوها – كما يزعمون – من الفوضى إلى النظام، ومن الفردية إلى المؤسسية.
وحين تسألهم عن تلك الخطوات التي صنعوها أو صُنعت لهم، فسوف تجد أنها رزم من الأوراق الجميلة في أرفف المنظمة، وقد تم ترويسها باسم المنظمة، وطبعت طباعة فاخرة تليق بهذا الاسم العريق، وربما تم إهداء نسخة من تلك الأوراق إلى أعضاء مجلس الإدارة لاطلاعهم على هذا الكنز العظيم والجهد الكبير الذي تم صنعه وإبداعه.. فأي شيء تحتوي عليه تلك الأوراق السحرية التي حولت المنظمة في أسابيع قليلة ونقلتها من الحضيض إلى القمة؟
تكاد تنحصر تلك الرزم الورقية الفاخرة في مجموعة من المسميات..
فأولها (الهوية البصرية) للمنظمة وتحليلها ومفاهيمها وضوابطها، والتي تحدد كيفية وضع شعار المنظمة وألوانه وأبعاده وأساليب استخدامه والشعار الحركي (السلوجن) وكيف يتم كتابته، خطاً ولوناً وعنواناً، وآلية وضع الشعار وتطبيق الهوية على المطبوعات والحقائب والعروض.
وثانيها : ( لائحة العمل الداخلي)، ذلك الاسم الكبير الذي يقولون أنه يضبط الحقوق والواجبات بين العامل والمنظمة، ويحدد المطلوب من كل طرف منهما، مع أن الوزارة المختصة (وزارة الموارد البشرية والشؤون الاجتماعية) قد وضعت دليلاً إرشادياً واضحاً وميسراً (نموذجياً) على موقعها وحثت على العمل بموجبه مالم ترغب الجهة في تعديله مشترطاً أن يتم اعتماد أي تعديل من خبراء قانونيون فوضتهم الوزارة بذلك، وقد عملت في منظمات عديدة لا يكاد يعرف العاملون فيها أن هناك نظاماً أصلاً، ولا يتم تطبيق النظام في اغلب مواده، باستثناء الانتدابات والاجازات والمستحقات المالية، وهي في غالب الأحيان: محسومة بالعقد مع الموظف، وبما جرى عليه العمل فيما يتعلق بالمستحقات، ولذا فإن جملة ممن يزعمون أنهم يعرفون المؤسسية ويطنطنون حولها، يطالبون (بشدة) أن تقر تلك اللائحة ليتنفس العاملون الصعداء، وما علموا أنها تتضمن الكثير من العقوبات والجزاءات التي لو عملت بها المنظمة لكان اولئك الموظفون أكثر المتضررين من تطبيقها.
وثالثة الأثافي هي (الوصف الوظيفي) الذي اصطلح بعضهم على "أسلوب محدد" لكتابته، وأخذ الناس في محاكاته دون تأمل، وبعض هذا الوصف من باب توضيح الواضحات، ولهذا تجده مملوءاً بالعبارات الفضفاضة والنصوص العامة التي تحدد مواصفات شاغل الوظيفة، وقد كتبها من لا يعرف طبيعة المهمة بشكل دقيق، بل إن المنظمات لو عملت بها بشكل دقيق لاستبعدت عدداً من موظفيها الذين هم على رأس العمل، فقد اشترط الناسخ – عفا الله عنه – شروطا مبالغاً فيها وتجاهل الشروط الخفية التي لا مناص من العمل بموجبها وإن لم تتم كتابتها.. كالقدرة على الفهم العميق أو الكتمان أو التحمل أو الأمانة والصدق والنزاهة، وليست تلك الأشياء مما يمكن قياسه بأدوات علمية دوماً، بل يكون للحدس والتوقّع دور كبير في معرفته.
وأما الرابعة فهي (الخطة الاستراتيجية ) التي أصبحت في الكثير من الجهات "حبراً على ورق"، وانتهى الاحتفاء بها وتوظيفها بمجرد اعتمادها، ونشرها، وهي نسخة مكررة من خطط المنظمات الشبيهة في المجال، وان اختلفت كليا في الموارد المالية والبشرية، ولذا فهي خالية من التأثير الفعلي على سلوك المنظمة وتوجهاتها.
وأما الخامسة فـ (النظام المالي)، ذلك الاسم الرنان الذي يشعرك أنك أمام منظمة ضخمة جداً لا يمكن إدارة العمل المالي فيها إلا وفق "نظام طويل ومفصل" يحتوي على عشرات الصفحات والمواد الأساسية الفرعية، والنماذج المرفقة، والتي أجزم أن أكثر العاملين في الإدارة المالية، فضلاً عمن سواهم ممن يعمل في شأن يتقاطع معهم لم يطلع على هذا النظام، ولا يعرف من محتواه الا الشيء اليسير، لأن أغلب العمل مؤتمت ويسير بانتظام وفق الآليات العلمية والعملية الموثقة لدى الإدارة المالية في كل منظمة، فوجود تنظيمات تضبط العمل امر مهم، لكنه ليس بالضرورة بهذه الكمية من الصفحات والتفصيلات التي تصبح عبئا حين تطبّق، ومخالفة حين لا تطبق.
والملاحظ أن تلك الأنظمة واللوائح والأوراق تزداد يوماً بعد آخر، ويكثر معدّوها، ومن يزعمون أنهم اهل الاختصاص فيها، مع أنهم - في كل مرة - يقومون بنسخ 95% من لوائح جهات أخرى وإجراء تعديل لا يزيد عن 5% يذهب جلّه في عملية استبدال المسميات للمنظمة وللرتب الإدارية، أو المسميات التي يشغلونها فقط، وتعمل خاصية (البحث والاستبدال) في "مايكروسوفت وورد" بأكثر الواجب، باستثناء الضمائر التي يتم نسيانها في الكثير من الأحيان!، وتؤخذ على تلك العملية عشرات الألوف - على اقل تقدير- دون أي فائدة حقيقية تذكر!.
ولذا فإن لتلك المستندات النصيّة ولتجميلها وطباعتها، والتفاخر بوجودها، سوق رائجة تحرص على تعميمه باسم المؤسسية والتميز الإداري، وهما بريئان منها تماماً.
إن التنظيم الإداري، وتوثيق العمل، ووجود السياسات والإجراءات أمر جميل ومهم من حيث الأصل، وذلك يكون حينما يكون الأمر واقعياً ومبنياً وفق الأسلوب المنطقي والمتدرج، وليس مجرد إضافة أوراق منسقة وفاخرة لمجلد الوثائق في المنظمة، وإقامة الاحتفال بمناسبة التحول نحو المؤسسية الورقية.
دمتم بخير..
محمد بن سعد العوشن
الرياض -حرسها الله -
Bin_oshan
25 / 5 / 1441
وكتبه
محمد سعد العوشن
bin_oshan