ليس وقت النقد!
كما أن من الطبيعيّ أن تقع الأخطاء هنا وهناك، فإن من الطبيعي كذلك أن يتم نقد الأخطاء ومناقشتها، والحديث عنها عند وقوعها.
فنقد الممارسات المختلفة، - مع الالتزام بالأدب والاحترام وحسن الظن - يعدّ سلوكا حضاريا محمودا، و سبيلا لنضج المجتمعات ورقيّها.
ويتأكد ذلك حينما يقع الخطأ ويكون بطبيعته عاماً، أو واقعاً ممن تصدّر للناس، وكان عمله ذا طبيعة تلامس المجتمع وتتقاطع معه، ولذا ذكر ابن عبد البر عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: "أن من تولَّى تفريق الصدقات لم يعدم من يلومه".، وقد يكون اللوم حينها في محله أو في غير محلّه.
ورغم أننا جميعاً نقرّ بأهمية النقد الهادف، ويمكننا أن نلقي عنه المحاضرات الطوال في مجال التنظير له، إلا أن ذلك التسليم النظري يواجه إشكالا حقيقيا عند تطبيقه على أرض الواقع!، إذ يبدأ البعض في التحسس من النقد، مستخدماً جملة شائعة مفادها (لاشك أن النقد أمر مهم، والحاجة له ماسة، ولكن ..) فتأتي (لكن) هذه لتنسف ما كان قبلها، وتحاول أن تثبط من مسيرة النقد بحجة أن الوقت والظروف الراهنة ليست مواتية للنقد، ويزعم المعارض للنقد بأن تلك الانتقادات ستفتح الباب للمغرضين لينالوا من الجهات، والأعمال، ويقللوا من الإنجازات، وانه لأجل ذلك علينا التريث في الحديث عن الأخطاء، حتى تمر العاصفة!
وحتى إن بدا هذا التخوّف منطقياً في ظاهره، إلا أنه في حقيقته مؤثر سلبا على المجتمع بمؤسساته المختلفة، فأولئك المغرضون يصطادون في الماء الصافي وفي الماء العكر، ويقومون بما هو أسوأ من استغلال النقد الإيجابي الهادف، فتراهم يفترون الكذب، ويتصيدون، ويضخمون الصغائر، ويروجون للإشاعات، وهم حينما يمارسون ذلك فإنهم لا ينتظرون إذناً ليمارسوا دورهم الإفسادي الفعلي.
لكننا حينما نسكت عن أخطائنا، ونتوقف عن النقد الهادف، فإننا في الحقيقة نقدم لهم أكبر هدية يمكنهم التشبث بها لتكون مدخلاً يتسللون منه، ذلك أن النقد حين يأتي من المخالف، يأتي مشحوناً بالتجاوز والظلم والاستفزاز، وحين يقرأه الناس أو يسمعوه، فربما وقع في نفوسهم شيء من التصديق -وللأسف-، حينما يتكئ الناقد المسيء على بعض الحقائق والتجاوزات التي تم السكوت عنها زماناً، بينما يقوم النقد الهادف بدوره الإصلاحي الذي لا يجعل لأولئك مدخلاً.
ومن فوائد النقد الهادف أننا حين نمارسه فإننا بعمومنا نكون في موقف أقوى، فالناقد مارس دوراً فاعلاً وإيجابياً تجاه الخطأ، والطرف الذي تم انتقاده قام بمراجعة ذاتية لعمله، والتأكد من صحة ما يقوم به، فإن وجد أن صنيعه صحيح لا غبار عليه، كان ردّه على النقد متزناً ومنطقياً دون انفعال، وتعمّق في قناعاته، وعزز وجهة نظره، وإن وجد غير ذلك، سعى وأصلح الخلل حيثما كان، مستشهداً بالمقولة الشهيرة (رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي).
ولا يوجد وقت يمكن القول فيه ( ليس هذا وقته) فالنقد ملازم للعمل، ولا يصح التنادي لتأجيله، ولعل المتأمل للنصوص الشرعية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أوج قتاله مع المشركين، يتضح له أن عددا من تلك الآيات تناولت – وبكل وضوح – انتقاداً علنياً لعدد من الأخطاء التي وقعت، ومنها على سبيل المثال، قول الله تعالى: (وفيكم سماعون لهم)، وقوله: (منكم من يريد الدنيا)، وفي السنة مثل ذلك منا النصوص التي تتوجه لشخص محدد حيناً، ولمجهول العين حيناً آخر كقوله صلى الله عليه وسلم ( ما بال أقوام..)، وقد نزلت تلك النصوص في خضّم الصراع بين الحق والباطل، وفي وقت اشتداد الكرب، لان النقد ملازم للعمل.
ومن هنا فإن المقولة الذائعة .. (ما هو وقته) غير مقبولة على الإطلاق، إذ ليس هناك أوقات للنقد وأوقات للتوقف عنه، فما دامت الأعمال والمشاريع والجهات تعمل وتتحرك على أرض الواقع، فإن النقد سيبقى جزءاً أساساً من أجزاء العمل، وسلوكاً مهماً للتصحيح وضبط البوصلة.
وانا هنا لا أدعو إلى النقد لأجل النقد، لكنني أدعو للنقد الهادف الذي يعني المكاشفة والوضوح، وإبداء وجهات النظر، والتصحيح للأخطاء وعدم السكوت عنها تحت شتى الذرائع المتوهمة، فإن انتظار الوقت المناسب الذي يخلو من المخالفين والمتربصين، هو انتظار للمستحيل، وتأجيل بانتظار الفرصة السانحة التي لن تأتي، ونحن أحوج ما نكون إلى المصارحة، والنقد دون مواربة، وألا نتحرج من ذلك أو نمنعه خوفاً وحرصاً على العمل، بل نبادر به حرصاً على العمل ومصلحته.
دمتم بخير ،،،
محمد بن سعد العوشن
الرياض - حرسها الله -
الرابع من ذي الحجة 1446هـ
3:32 م