2:28 م

السعادة حين نملكها


نتوقع في أذهاننا فروقاً أكبر من الحقيقة بين مقدار السعادة عند أهل الثراء الفاحش والفقراء، ونتوقع في أذهاننا فروقاً أكبر من الحقيقة في مقدار السعادة عند الأصحاء والمرضى والمعاقين.
لم أقل أن المال والصحة لا يؤثران على السعادة، لكنهما وحدهما غير قادرين على جلبها، ولا تقاس السعادة بنسبة توفرهما، فالفروق التي في أذهاننا قد لا تكون صحيحة - كما يقول دان جلبرت - .
ولكي يكون الكلام أكثر دقة، ومنطقية، فإننا نتذكر دوماً كلاماً لأبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كلاما طالما رددناه معجبين به، لكننا اليوم نتحدث عن تطبيقه في واقعنا على هذا الموضوع الذي نحن بصدده.
(ما يفعل أعدائي بي ؟
أنا جنتي و بستاني في صدري .. 
أين ما رحت فهي معي .. 
أنا حبسي خلوة .. 
ونفيي سياحة .. 
و قتلي شهادة )

حين يقول ابن تيمية أن سعادته وجنته في صدره، فهو لا يمزح ولا يكذب.

وحين يقول بأن أعداءه لا يمكنهم سلب السعادة من قلبه فهو لا يقول سوى الحقيقة التي يعتقدها.

السعادة - ياقوم - ليست ظروفاً خارجية، تصنع لك السعادة أو تسلبها، ولكنها مشاعر وجدانية، وتحكّم داخلي، وإعادة رؤية للمشاهد والظروف المختلفة من جهات أخرى.


فابن تيمية - في مقولته السابقة -  يرى أن السجن وحبس الحرية التي تعتبر أحد أكبر منغصات السعادة في أذهان الكثيرين، والتلويح بها سبب للخوف والقلق الكبيرين يراها من وجهة نظره أحد أسباب السعادةّ!

 فالسجن لابن تيمية "خلوة"، خلوة بربه، وخلوة مع نفسه، ووقت مجاني للانقطاع عن المشغلات والمكدرات اليومية التي تقتحم عليه عبادته لربه. وتأمله في الكون والحياة.
والناس يبحثون عن وقت يتخففون فيه من الشواغل فلا يجدون ولا يستطيعون، لكن ابن تيمية يحصل عليها - وفقا لكلامه- مجاناً وبدون أي طلب.

وهو يرى أن الطرد والإبعاد من الوطن، وتركه يهيم في أنحاء الأرض بعيداً عن موطنه الأصلي، هو فرصة سانحة للسياحة في البلدان والأقاليم، ووقت مناسب للتفكر في آيات الله المنثورة وعجائب صنعه، والتي يبذل الناس الغالي والرخيص ليحصلوها إن استطاعوا.

وهو - أي ابن تيمية - يرى أن القتل، الذي هو أقصى عقوبة يمكن أن تنفذ بحق الإنسان، وهو عند الناس من أسباب التنغيص ليس لمن تقرر تنفيذ القتل بحقه فحسب، بل لكل أهله ومعارفه، وقد يلازمهم الأسى لذلك سنين عدداً، وربما أورثهم الحزن مرضاً أو موتاً، يراه أقصى أمنياته، وغاية مأموله، فهو- أي القتل في حالة ابن تيمية ومجاهرته بالحق والدين -  "شهادة" تجعله مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.

لذا لا عجب أن يتساءل متعجباً في أول جملته الشهيرة ( مايفعل أعدائي بي؟)

إن غاية مايريده عدوك أن يسلب منك السعادة، ويورثك الحزن، فإذا كانت كل أسلحته التي يملكها تحقق خلاف الهدف الذي تستعمل له، فإن العدو - والحالة هذه - سيكون عاجزاً مشلولاً إلا من تقديم الخدمات المجانية للإمام.

إن مفهوم السعادة لدى هذا الإمام الكبير مختلف عن مفهوم السعادة السائد في مجتمع اليوم.

فهو يرى أن مصدر السعادة، ومنبعها، وأصلها، داخل النفس لا خارجها، فجنّته وسعادته وسروره في صدره.

فالجنة الدنيوية في مفهومه ليست مساحات خضراء واسعة من الأرض، وليست مراكب فارهة، ولا قصوراً فخمة، ولا أطعمة متنوعة، ولا أجواء منعشة، ولا مالاً كثيراً متوافراً، فكل هذه الأشياء لا تشكل لديه سبباً حقيقياً للسعادة إذا لازمت البعد عن مرضاة الله وأوامره، لذا ربما رأيت من أتيحت له هذه كلها أو جلها، ومع ذلك لا يفارقه الأسى، وترى الحزن رفيقه حيثما حلّ وارتحل.

وإذا استشعرنا أن "السعادة" تكمن في الداخل، وأن هذه السعادة الداخلية يمكنها أن تجعل المرء مبتهجاً وفرحاً وجذلاناً حتى بذهاب بعض النعم وزوالها الدائم أو المؤقت، وأن هذه السعادة الداخلية كفيلة بمحاربة الحزن والكدر لفقدها، إذا استشعرنا ذلك فإن من المهم حينها أن نعيد تعريف السعادة في أذهاننا من جديد، وأن ندرك - حقاً - أننا بتغيير تصوراتنا، واستشعارنا للأجر، وتقبلنا للبلاء، ورضانا بالقضاء، وتسليمنا للمقادير، يمكننا أن نكون سعداء بل في غاية السعادة مهما كانت الظروف والأحوال.

ولذا اعتبرت القناعة (كنز لا يفنى) لأنها ثابتة باقية بينما الأموال والثروات متحركة وذاهبة.

وختاماً :  تذكّر أن سعادتك  دوماً وأبداً تنبع من داخلك، فغير تصوراتك، تسعد بإذن الله.

دمتم بخير ،،
محمد بن سعد العوشن
@binoshan

0 التعليقات:

إرسال تعليق