لغة القالب

العاطفة المسيطرة!


نتوقع أننا حين نصدر قراراتنا أو أحكامنا على الأشخاص، أو الجهات، أو الأعمال، فإننا ننطلق من موضوعية عالية، وأننا نحكّم فيها العقل والمنطق بشكل فعّال، ونستند على المعلومات لاتخاذ تلك الأحكام، ولهذا فإنه يغلب على ظننا أنها أحكام صحيحة، ومتقنة في الوقت ذاته.

غير أن الحقيقة بخلاف ذلك كله، إذ تثبت الدراسات، والوقائع، والأحداث أن قراراتنا في الكثير من الأحيان متأثرة تأثراً بالغاً بحالتنا النفسية، والعاطفية، والوضع الذي نعيشه أو نشعر به حينما نصدر تلك القرارات..

 بل والوضع الذي يكون عليه الطرف المحكوم عليه، وطبيعة علاقتنا به، وتاريخنا معه، وهي عوامل مؤثرة وفاعلة، ويمكنها أن تغيّر أحكامنا 180 درجة أو دون ذلك.

وقد كتب أبو بكرة إلى ابنه -وكان بسجستان- بأن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان؛ فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان.

وأورد الفقهاء الكثير من أقوال العلماء في شرح هذا النص، وبيان أن إصدار القرارات والأحكام مع وجود المشغلات أو المنغصات أو الظروف المحيطة يجعل الحكم والقرار أقل رشداً، وأكثر عرضة للخطأ.

وثمة مقولة حقوقية أمريكية ذائعة مفادها "إن العدالة تتوقف على ما أكله القاضي في الصباح"!

وفي دراسة أجراها جوناثان ليفاف من جامعة كولومبيا عام 2011 أوضحت أن القضاة يميلون أكثر للحكم بعفو مبكر بعد تناول وجبة أو استراحة، لكن لا يحدث هذا بنفس المستوى إذا أصدروا حكمهم في وقت لاحق من اليوم!.

و في دراسة أخرى أجريت على 700 ألف زيارة طبيب، وجد أن الأطباء يميلون وصف العقاقير المخدرة من أشباه الافيونيات في نهاية اليوم أكثر مما يصفونه في الصباح، و وفي دراسة على 682 متقدم للتسجيل في التعليم وجد أن الأيام الغائمة تزيد من نسبة قبول المتقدمين للدراسة بمعدل أكثر من 12% من الأيام المشمسة!، ولذا كان عنوان الدراسة غريباً ( الغيوم تظهر الحمقى بمظهر جيد).

كما وجدت دراسة أجنبية أخرى أن القضاة يميلون لأحكام قاسية أكثر حين يخسر الفريق المحلي للمدينة في كرة القدم، تم قياس ذلك على مليون ونصف حكم قضائي. وقد وجدت دراسة أجريت على ستة ملايين حكم قضائي في فرنسا أن القضاة يظهرون تسامحاً أكثر في يوم ميلادهم.

إن ما توصلت إليه تلك الدراسات - وامثالها كثير - هو : أن هناك الكثير من العوامل التي تساهم في اتخاذ القرار، وهي ليست منطقية ولا عقلانية، بل هي ظرف خارجي محيط يدفع نحو هذا القرار أو ذاك.

وحديثي هنا ليس دعوة لترك اتخاذ القرارات، أو عدم إصدار الأحكام على الأشياء، لأن طبيعة الحياة وتسارعها يدفعك لفعل ذلك، وإلا فسوف تتوقف عن كل شيء، لكنني هنا أريد الإشارة إلى أننا ونحن نصدر الكثير من الأحكام في حياتنا، يجب أن ندرك أمرين اثنين:

أولهما : أن تلك الأحكام التي نصدرها، هي أحكام ظنيّة تقريبية، وفق المعطيات المتوافرة وقت إصدارها،  ووفقاً للحالة العامة التي نعيشها، والظروف المحيطة بنا آنذاك، وبناء عليه فإن الحماسة المفرطة لتلك القرارات، والتمسك المطلق بها لكونها قد صدرت منا ليس من الحكمة في شيء، بل الاتزان في التعامل معها، واعتبارها مبنية على غلبة الظن، لا على اليقين في الكثير من الأحيان، يجعلها في مكانها الطبيعي.

ثانيهما : أن المرء في حاجة مستمرة لمراجعة أحكامه، ولا تثريب عليه في تغييرها، أوتعديلها إن تطلب الأمر ذلك، وإدراك أن هذه التعديلات على أحكامنا لا يعني ضعفاً، ولا تردداً، بل هو في حقيقته يعني المزيد من الثقة في النفس، وقوة في الرجوع للحق.

ولذا تضمنت رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وصية هامة، يقول فيها:" لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم فهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق ، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل" .

وفي السياق ذاته قال عبد الرحيم البيساني وهو يعتذر إلى العماد الأصفهاني عن كلام استدركه عليه: " إني رأيتُ أنه لا يكتب أحد كتاباً في يومهِ إلا قال في غَدِهِ: لوُ ُغَّيرَ هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يُستحَسن، ولو قُدَّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل. وهذا أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر".

واللاعقلانية في إصدار الأحكام والقرارات لها مسببات كثيرة، منها نقص المعلومات، او التحيز المكاني، أو العرقي، أو الديني، او المواقف السابقة، أو الحالة النفسية والصحية والمالية والاجتماعية، أو الضغوطات والتشويشات التي تتم أثناء ذلك.   

وقد دفعني لتحرير هذا المقال،  ”تعليق“ كنت قد كتبته في نهاية صفحات أحد الكتب التي سبق لي قراءتها!.حيث وجدتني قد قلّلّت من شأن الكتاب، وحكمت عليه بعدم الفائدة، ثم إنني أعدت قراءته مرة أخرى، فتبين لي أن حكمي السابق لم يكن دقيقاً، وأنه بالرغم من وجود أجزاء من الكتاب يمكن وصفها بذلك الوصف إلا أن أجزاء أخرى كانت مليئة بالفوائد، وحينما حاولت معرفة سبب ذلك الحكم تبين لي أنني قرأت الكتاب على مراحل، وأن حكمي كان -في حقيقته- على المرحلة الأخيرة من الكتاب لا على سائر الكتاب.


ثم تأملت في نفسي، فوجدتني في أحوال أخرى أصدر أحكاماً على أمور، وأنا لم أحط بكل جوانبها، وإنما بما ظهر لي منها، ويكون الحكم حينذاك مبرراً ومنطقياً، وحين أتواصل مع الأطراف ذات العلاقة، وأقف على التفاصيل التي لم تكن ظاهرة لي، أدرك أن حكمي السابق أحوج ما يكون إلى المراجعة الفعلية.

 وأمتلك - بحمد الله -  من الشجاعة و الجرأة ما يجعلني أعترف بخطأ حكمي السابق، وتغييره، فالحق ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أولى بها.

جعلنا الله وإياكم من الرجّاعين للحق، وأصلح الله لنا النوايا، ووقانا شر أنفسنا وشر الشيطان، وجعلنا مباركين أينما كنا.

دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري

@bin_oshan

10 صفر  1445 هـ
11:28 ص

عدد المواضيع