12:02 م

المؤسسية المفترى عليها!

في استبانة تم تطبيقها على موظفي أحد المنظمات، تفاجأ المقيمون بتردد مصطلح (المؤسسية) في أكثر من موضع على لسان من أجابوا على الاستبيان، وحين بدأ الفريق في تحليل الإجابات، قرروا أهمية الالتقاء المباشر مع الموظفين واحداً بعد آخر، للتأكد من دقة الإجابات، والتحقق من النتائج التي تم التوصل إليها.

وتفاجأ أصحاب الدراسة بأن عدداً ممن طبق عليهم الاستبيان كانوا ينتقدون أموراً في منظمتهم، واصفين ما يقع بأنه يخالف العمل المؤسسي، ويطالبون بأمور، ويقولون بأن العمل المؤسسي يقتضيها، وهي إجابات متناقضة بين المجيبين، فما يعتبره الأول مؤسسياً يراه الآخر خلاف ذلك!

وطلب الفريق مؤهلات الموظفين وخبراتهم المؤسسية التي من خلالها باتوا يحكمون على الأعمال بأنها مؤسسية أو غير مؤسسية، وكانت دهشتهم كبيرة حين علموا بأن بعض هؤلاء حديث التخرج، وهو لم يلتحق بالعمل الوظيفي إلا قبل ثمانية أشهر، كما وجدوا أن أحدهم كان يحمل مؤهل المرحلة الثانوية، فهو يفتقر للأسس المعرفية التي تتيح له معرفة ما يتحدث عنه!، وكان بعض من أجابوا قد اعتبروا عملهم السابق، أياً كان هو المقياس الذي عليه تقاس المؤسسية وجوداً أو عدماً!

إن قراءة هذا المشهد الصغير توضح تماماً المشهد الأكبر حينما يتحدث الناس بما لا يعرفون، ويرون أن ترديد بعض الكلمات والمفردات  في حديثهم أو نقدهم، كالمؤسسية والحوكمة والاستراتيجية و الاستدامة، تجعل حديثهم يبدو أكثر نضجاً ومصداقية، مع أنهم في الحقيقة فارغون من الداخل، يحاولون أن يجعلوا من صنيعهم، أو يضفوا على رغباتهم شيئاً من هذه المصطلحات لترويجها، وبالمقابل، فإنهم مستعدون لوصف أي عمل لا يوافق أهواءهم بأنه يفتقر للمؤسسية، وينقض أبجديات الحوكمة!

وفي أحد المنظمات، حدثني قائد خبير- تم تعيينه في تلك المنظمة مؤخراً- حدثني وهو يشتكي من مصطلح (المؤسسية)، وقال لي بلهجة عامية : لا عادت ها المؤسسية! هل تعرف ماهي المؤسسية في منظمتنا؟ فأجبته بالنفي، وتساءلت : وماذا تعني لديكم؟ قال: المؤسسية وفق فهم فريق العمل: أن يملك الموظف الأدنى في التسلسل الإداري القرار، دون القائد، لأن اتخاذ القرار يسير من الأدنى إلى الأعلى، فإذا لم يوافق الموظف الأصغر على المشروع فإنه يملك حق حجبه ومنعه! أما القائد – بكل خبراته التراكمية وإحاطته بالمشهد بعمومه – فإنه غير مخوّل باتخاذ القرار، بل عليه الانتظار حتى يقرر ذلك الموظف قراره الحاسم!

وفي منظمة ثالثة، كان رئيس القسم يقوم بدراسة المشروعات الواردة مع موظفيه، ثم يرفع توصيته للمدير، فإذا ردّ المدير أحد المشروعات لعدم قناعته بالمبررات، أو لارتفاع التكاليف، أو لعدم الجدوى، أو لغيرها، وقف في وجهه رئيس القسم، قائلاً : كيف يتم ردّ الرأي الجماعي (رأي رئيس القسم وموظفيه) برأي الفرد (المدير)؟ وأين العمل المؤسسي؟ فكان المدير يرد عليه ببساطة قائلاً : مهمتي كمدير، هي اتخاذ القرار، و ليس أن أبصم على قرارات من دوني، ولو كانت هي مهمتي، هي قبول قراراتكم فإنه هذا يعني عدم الحاجة لوجودي أصلاً، لأن ما تقرره أنت فسوف يمضي، وهذا غير منطقي، وأنا في موقعي هذا فأنا قد وظفت فريق العمل لإعانتي على اتخاذ القرار، وليس لاتخاذ القرار نيابة عني، او بمعزل عني، فخرج رئيس القسم وهو يندب حظه على فقدان (المؤسسية)!.

إننا في حاجة لتحرير المصطلحات أولاً، ثم القياس للواقع من خلال منهجية دقيقة، وأدوات محكمة، ومؤشرات واضحة تحيط بالمعاني بشكل متوازن، أما أن نضع المعاني من خلال توقعاتنا القاصرة ثم ننطلق نحو إصدار الأحكام على الآخرين فذلك جهل مركب.  

ومن المهم في ختام حديثي هنا أن ندرك أن مشكلتنا تأتي غالباً من المتعالمين الذين يعرفون شيئاً يسيراً، ثم يبنون على تلك المعارف المحدودة مبانٍ شاهقة على غير أساس، تهوي مع أول نقاش علمي معهم، والذين يحاولون تقوية آرائهم واجتهاداتهم الفردية الخاصة ببعض المصطلحات من أجل الإلزام بها، واعتبار المخالف لهم جاهلاً بأسس العمل الإداري الرشيد!

أسأل الله أن يوفقنا دوماً للرشاد، وأن يصلح نوايانا، ويدلنا على الخير، دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري

@bin_oshan


0 التعليقات:

إرسال تعليق