لغة القالب

تدارك العافية

في كل لقاء تسمعه أو تشاهده مع الأشخاص الذين تعرضوا للإعاقة جراء حادث مروري أو سقوط من مكان عال، أوإصابة بمرض مقيّد للحركة، تجد علامات الندم واضحة في ثنايا حديث أولئك المبتلين و تنهداتهم أثناء روايتهم لتفاصيل حياتهم قبل الحادث وبعده..
وتدرك -بكل وضوح - ندمهم على التفريط في أوقات العافية والصحة والنشاط، وأمنياتهم العميقة بالشفاء لكي يوظفوا كل تلك الطاقات التي كانت لديهم في مكانها الصحيح، ويستثمرون أوقاتهم بما يليق بها، ولسان حال الواحد منهم : ليتني أعود إلى النشاط والصحة، ففي جعبتي الكثير مما كان يفترض بي أن أصنعه، وسوف أصنعه لو تحقق لي ذلك.

إن ما نعتبره اليوم من البديهيات التي لا نعيرها بالاً، ولا نلتفت إليها، ولا نشعر بها من كثرة المماسة، هي من أهم المهمات، وأغلى الأمنيات لدى أولئك المبتلين.

فصعود سلم المنزل -مثلاً- لأجل السلام على الوالد أو الوالدة، والبقاء بجوارهما، وتقبيل رؤوسهما، فضلاً عن السفر بهما، أو قضاء حوائجهما، هي أمور لم تعد متاحة لأولئك المبتلين  -شفاهم الله - ، ولسان حال الواحد منهم : والله لإن شافاني الله مما أصابني ليرين الله ما أصنع من البر والإحسان لهما.

أما تفقد حال الأبناء، والذهاب بهم للمدرسة، أو المستشفى، والسفر بهم، واللعب معهم، وحملهم بين الأذرع، وإدخال السرور عليهم بأنواع الحركة، فكلها أمنيات يعجز الكثير منهم عن القيام بها، ويأمل أن يصنعها ولو لمرات محدودة في حياته بعد أن حرم منها.

وأما القيام للصلاة، والذهاب للمسجد، والسجود المتكرر، والإمساك بالمصحف، والحج والعمرة، وأعمال كثيرة من أعمال الخير والإحسان التي يودون لو أنهم قادرون على فعلها، وإنفاق الوقت والجهد عليها، فلا تسل عن الحسرة التي تجتاح قلوبهم على عدم القدرة، ولا تسل عن مشاعر الحزن التي تجتاحهم وهم  يرون جموع الطائفين والعاكفين والركّع السجود على شاشات التلفاز، ولذا لا ينفك الواحد منهم يدعو الله ويلح في الدعاء ليتمكن من السجود بين يديه، ويتمنى أن تقبض روحه وهو ساجد لله تعالى.

ويصبح تبادل الزيارات مع الأحبة، والأنس بهم، والذهاب معهم للبرية، والاستمتاع بتفاصيل تلك الرحلات، أمراً عسيراً، إذ أن كثيراً منها مما يصعب القيام به أصلاً، أو يمكن القيام بهم مع مشقة وجهد كبير على المبتلى وعلى أصحابه في الوقت ذاته.

أما ركوب السيارة فضلاً عن قيادتها -وهي من أيسر الأمور على الصحيح المعافى- فتغدو أمراً بالغ الصعوبة، وجهداً يتطلب السؤال المكرر: هل هناك حاجة فعلية للركوب، وهل يستدعي الأمر تحمل ذلك العناء، فتراه يقوم بالكثير من المقاربات والتحليلات قبل اتخاذ قراره بالخروج من المنزل.

كما أن ارتداء اللباس وخلعه يغدو هو الآخر هماً إضافياً يسبق كل مناسبة، أو ما يستدعي الخروج من المنزل، إذ تكتنفه الكثير من المصاعب، والحاجة للمساعدة، أما الذهاب للخلاء، فأمر عسير، ومجهد ومحرج في الوقت ذاته، فالكثير من البيوت والمساجد والمرافق العامة لم تصمم لتخدم هذه الفئة أصلاً، ولذا فهو محتاج إلى المساعدة في الوصول إلى دورة المياه، ودخولها والخروج منها.

وكل ما ذكرته من نماذج وأمثلة ليس سوى رأس هرم الجليد، فالخافي أعظم، ومالم أذكره هو أضعاف ما ذكرته، أسأل الله بلطفه أن ينزل عليهم الشفاء والعافية، ويرزقهم الصبر والإعانة، ويضاعف لهم الأجور.

إن حديثي السابق ليس موجهاً لأولئك المبتلين الصابرين، وإنما أوجهه للأصحاء المتعافين، الذين منّ الله عليهم بالعافية، والقدرة المطلقة على الحركة، ويسر لهم الكثير من النعم المتتالية، بحيث لم يعودوا يستشعرونها، أو يقدروها، ولا يشكرون الله عليها إلا قليلا، وبات تعرض الواحد منهم لنزلة برد، أو جرح يسير، أو إلغاء مشروع ما، أمراً يجلب لهم الكدر، ويعيّشهم مشاعر سلبية مبالغ فيها، لأنهم عاشوا اللحظة التعيسة بعمق، ونسوا المحيط الضخم من النعم التي يرفلون فيها.

ولذا فإن رؤية المبتلين، وسماع أحاديثهم من شأنه أن يجدد لدينا الامتنان لله تعالى، واستشعار النعم، ويعيد ترتيب الأولويات لدينا، ويدفعنا إلى التعجيل بالعمل وترك التسويف، والمبادرة اليوم بصنع كل ما نستطيع صنعه، وإدراك أن ما يمكننا القيام به اليوم، ليس بالضرورة مما يمكننا القيام به غداً، فحوادث الزمان تأتي دون إشعار مسبق، تأتي فجأة فتحبس المرء في مكانه، وتوقفه عن كثير من أعماله، فيزار ولا يزور، ويتلقى الخدمة بدلاً من أن يقدمها للآخرين.

وما أحوج كل واحد منا إلى وقفة مراجعة شاملة لمسيرته، وأعماله، وواجباته، والتزاماته، ووقته، وأمنياته، وإنجازاته، وإعادة التخطيط لحياته، مركزاً فيها على الأولويات، مستغلاً فيها للنعم والأعطيات، مستصحباً أن دوام الحال من المحال، وأن وقوع البلاء ممكن، وأن السلامة غير مضمونة، فليتدارك العافية مادامت موجودة ومتاحة، فإن النعم سريعة الزوال.

ولنتذكر سوياً ذلك الحديث العظيم الذي يرويه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)؛ أخرجه الحاكم وصححه الألباني.

ولنستشعر كذلك أن المؤمن أمره خير كله فمتى ما كان محسناً عاملاً باذلاً وقت صحته وسلامته، فإن الله يجازيه بمثل صنيعه حين يصيبه البلاء، ويعجز، ففي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد، أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا) رواه البخاري.

أيها القارئ المبارك.. اعمل اليوم كل ما تستطيع عمله، واستثمر كل ما أعطاك مولاك، بما يسعدك، ويزيل عنك كل آلام التقصير، وتأنيب الضمير، ولا تنس قبل ذلك وبعده أن تسأل الله دوام العافية، وسلامة الجوارح، وأن يحفظها الله لك حتى تلقاه سليماً معافاً، حامداً شاكراً بالقول والعمل. 

دمتم بكل خير.

محمد بن سعد العوشن

(الرياض) حرسها الله

2 ربيع الثاني 1445

 الموافق 17 /10 / 2023


7:02 ص

عدد المواضيع