11:33 ص

تجربة الفِطام الذاتي!


خاض جميعنا تجربة الفطام من الرضاعة، وكانت تجربة متعبة في بدايتها، غير أنها ممتعة في عاقبتها، وبدلاً من الاكتفاء بمشروب واحد في البكرة والعشي، أصبح المتعرض للفطام قادرا على الأكل من أنواع المأكولات والمشروبات، مستمتعاً بالكثير من النعم.

وحديثي هنا ليس ذلك الفطام، بل عن فطام من نوع آخر، وهو لون من الحرمان الاختياري، والقرار الشخصي بالتوقف عن شيء ما.

ومن المهم لكل من أراد التحكم بذاته، وإدارة نفسه، وسلوكياته، وتحقيق النجاحات الكبرى أن يكون قادراً على فطام النفس عن بعض مشتهياتها متى ما أراد، فلا يكون منساقاً لها دون قيود أو حدود.
وهاهنا يروق لي ذلك البيت من الشعر النبطي :
مايذوق العز خمّام الوسايد * والرجل ماينفعه كثر التمني

والذي يوضح فيه الشاعر أن الاستسلام للملذات، ومنها النوم مثلاً، ليس طريقاً سالكاً نحو العز، والجاه، والمكانة، فتلك الدرجات الرفيعة تتطلب قرارات جريئة بإهمال وترك جملة من الأشياء، واعتزالها.
ولعل من ذلك أن يراجع المرء وقته، ومضيعات الوقت الأكثر تأثيراً عليه، ثم يفطم نفسه عن بعض تلك المضيّعات زمناً، ليكسر حاجز الاعتياد والتعلق.

ومن نماذج ذلك في مجال الأجهزة الذكية: أن يحذف الواحد منا (بعض) التطبيقات التي وجد أنه بات يمضي عليها (الكثير) من الوقت دون جدوى، والتي أصبحت تؤثر على أهدافه الأخرى، ومستوى إنتاجيته، وكل واحد منا أدرى بالتطبيق الذي يستغرق عليه أوقاتاً طويلة، حتى ولو كان ذلك الحذف مؤقتاً بأيام أو أسابيع، ذلك أن الانقطاع حيناً يورث تقليل الإدمان دون شك.

ومن الفطام المحمود، فطام النفس عن اعتياداتها السلبية، كاعتياد النوم الكثير، والكسل الذهني والجسدي، واعتياد الراحة، والخلود إلى سلوك الانزواء وعدم الفاعلية والرضى بالدون في كل مجالات الحياة.

ومن ذلك فطام النفس عن أصحاب الهمم الدنيئة، والاهتمامات السطحية، واتخاذ القرارات الحاسمة بتقليل الوقت المخصص للجلوس معهم إلى أضيق ما يمكن.  
وفي ذلك كله يصدق قول الشاعر :
والنفس كالطفل إن تتركه شبّ على * حبّ الرضاع، وإن تفطمهُ ينفطِـمِ

ولست أنسى الإشارة إلى لون آخر من ألوان الفطام ، لا يقل أهمية عن سابقه، وهو فطام يمنحنا متعة الحياة، ويجعلنا نسعد بها دوماً، وهو فطام النفس عن مواصلة الانغماس في محبوباتها المباحة، إذ الواجب المحافظة على عدم التشبع التام من تلك المتع التي نحبها، فإن الإكثار منها سبب للملل منها، والعزوف عنها، والهدف من عدم الاسترسال في تلك المتع أن تبقى متعة ممارستها، ولا تزول عنا لحظات انتظارها، والشوق إليها.

فمتعة السفر– مثلاً- والتي يعدّها الناس أحد أفضل المتع، ويبذلون لها الأوقات والأموال، حينما تكثر وتزداد في حياة المرء، ويغمر بها كل الأوقات، ويتواصل تكرارها بشكل متتال، فإن ذلك سيؤدي  - دون شك -  إلى فقدان مشاعر البهجة، والمتعة، والترقب، حينما تقرر سفراً آخر، وسيقل شعورك بتفاصيل الرحلة، من المطار، إلى الطائرة، إلى الإقلاع والهبوط، إلى لحظات الاستكشاف لأول مرة، ورهبة البدايات، وغيرها من المتع التفصيلية للأسفار، وستنخفض كثيراً متعة السفر وحبه وانتظاره، ويتحول إلى روتين غير مثير للسرور.

والأمر ذاته حينما نتحدث عن (متعة التسوق) فالذين يشترون كل ما تطمح إليه نفوسهم، أو يأكلون كلما تشتهيه أجسادهم دون تردد لمجرد قدرتهم المالية على الشراء، فإنهم سيشعرون بالتشبّع بتلك المتعة، لدرجة الملل منها، فاستمرار المرء في إشباع رغباته دون توقف، يجعل تلك الرغبات تبلى وتذبل، ويجعل تلك المتع تزول لذتها، فيصبح تحقيق السعادات الصغيرة أمراً غير يسير.
والناجحون والسعداء لديهم القدرة العالية على تحمل تأجيل إشباع الحاجات، وتباعد أوقاتها، والتوازن في التعامل معها، لأنهم ينظرون إلى مشهد الحياة ككل، وليس إلى اللحظة الحاضرة فحسب، ويخططون للمحافظة على رونق تلك المتع المختلفة، ويدركون أنه كلما استزاد الإنسان من المتع المادية المحسوسة تراجعت درجة استمتاعه بها.
ومن العجائب أن ذلك الأمر لا ينطبق إطلاقاً على المتع الروحية، فإن زيادتها تؤدي إلى مزيد من التأثير الإيجابي الذي تحدثه، والاستغراق فيها يزيدها بهاء، فتزداد مشاعر البهجة في كل مرة، فالأشخاص المهتمون بإرواء أرواحهم، وإشباعها، من خلال الدعاء، والصلاة، والأذكار، وتلاوة القرآن، والإحسان إلى الناس، وفعل المعروف يكونون أقدر على التغلب على التوتر والأمراض البدنية، ويكونون أكثر سعادة وسروراً حتى ولو كانت المتع الجسدية لديهم منخفضة للغاية.

والحديث عن الفطام برمته يأتي استجابة للأوامر والنصوص الكثيرة الداعية إلى الاعتدال في كل شيء، والاتزان في كل شيء، كما في حديث النبي ﷺ : (حسْبُ ابنِ آدمَ أُكلاتٌ يُقمْنَ صلبَه فإن كان لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابِه وثلثٌ لنفسِ) ، وقوله ﷺ : (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)، ويتوافق مع المقولة الشهيرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : "اخشوشنوا، فإن النعم لا تدوم"

محمد بن سعد العوشن
3 /  6 / 1445  هـ
الرياض 
حرسها الله

هناك تعليق واحد:

  1. روووعة
    ((والناجحون والسعداء لديهم القدرة العالية على تحمل تأجيل إشباع الحاجات، وتباعد أوقاتها، والتوازن في التعامل معها))

    ردحذف