10:05 ص

الدوائر الثلاث في الحياة | المحيميد

يعيش الواحد منا في أحد ثلاث دوائر، ومن المهم معرفة كل دائرة منها، والأسلوب الأمثل للتعامل معها، بهدف تحقيق الأثر الأكبر في الحياة، وبعد الممات.

الدائرة الأولى: دائرة الاهتمام

وهي حديثك ونقاشك وتفاعلك في الأمور الخارجة عن سيطرتك، ولا تأثير لك فيها، والتي يتسبب الانشغال بها افي إهدار الكثير من الأوقات وزيادة الضغوط النفسية، بالإضافة إلى كثرة الاختلافات، وتوتر العلاقات، وكثرة النقاشات، وهي دائرة جدلية بيزنطية غير مباركة، وتسمى أحيانا بـ (دائرة القلق)، وقد روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال).

ومن الأمثلة على ذلك:

* كثرة الدخول في الماجريات ومتابعة الأخبار والأحداث والوقائع.

* المبالغة في نقد الحكومات والوزارات والجهات.

* إطالة المرؤوس في نقد الأنظمة والمديرين وأسلوب العمل. 

* المبالغة في التحليلات العميقة.

* المبالغة في نقد الواقع وتقييمه.

أما النتيجة: فإن نسبة التأثير الناتجة عن إمضاء الوقت في ذلك قليلة جداً إن لم تكن معدومة، وربما استخدم المرء تلك الأوقات، والأحاديث لمجرد التنفيس، أو كمبرر وحيلة نفسية للتوقف عن العمل والإنجاز تذرعاً بها.

والحقيقة أنه ليست هناك مشكلة في أن تأخذ هذه الدائرة حيزاً يسيراً في حياتك، فالإنسان مدني بطبعه - كما يقول ابن خلدون- فإذا بالغت وأعطيتها وقتاً أطول، فقد وقعت في فخ (التأثير الوهمي)، فيصدق فيك حينها شطر المتنبي: "وتعظم في عين الصغير صغارها"، وقول الآخر "أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل * ما هكذا يا سعد تورد الإبل"، فالقادة يقضون أوقاتهم بالتغيير والتصحيح والإصلاح، ولا ينشغلون بالصراخ في وجه الأخطاء والتجاوزات، ويستثنى من ذلك من يقوم بفروض الكفايات لنشر الوعي الضروري.

أما الدائرة الثانية، فهي: دائرة التأثير

وهي الموضوعات والأشخاص والأحداث التي يمكنك التأثير عليه -مهما اتسعت دائرة التأثير-، وهي دائرة عملية مباركة يؤمن فيها المسلم أنه لديه القدرة على التغيير في عالمه أو العالم الذي حوله، وتسعى بالمسلم إلى تفويت الفرصة على النفس الكسولة التي تريد أن تتحدث وتتحدث عن الهموم والمشكلات، لكنها تتقن فن التهرب من المسئوليات.

ومن الأمثلة على ذلك:

* مهنتك الوظيفية.

* تخصصك الفني.

* أسرتك.

* مشروعك التجاري.

وأما الدائرة الثالثة، فهي: دائرة التركيز

وهي قمة نتاج الإنسان، وتأثيره، ودوره، وذلك بأن ينتقل المسلم من دائرة التأثير العام إلى باب يفتحه الله عليه، فربما يكون ممن يجدد في أحد أبواب هذا الدين العظيم، أو مجال من مجالاته، وربما يكفي الناس أحد فروض الكفايات، وهي أشرف من فروض الأعيان -كما ذكر إمام الحرمين في الغياث-.

وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:(من بورك له في شيء فليلزمه)،فإذا عمل الإنسان عملا ورأى فيه البركة والثمرة فليلزمه، ولهذا لما كتب العابد عبد الله العُمري إلى الإمام مالك يحثه على الانفراد والعمل الصالح وترك مجالسة الناس، رد عليه الإمام مالك بقوله: (إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فُتح له في الصلاة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشْر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر) 

كما قال الشاعر : "وكن رجلاً إن أتوا بعده * يقولون مرّ، وهذا الأثر"

ومن الأمثلة على ذلك:

أن دائرة تركيز ابن عباس رضي الله عنه، وبصمته الباقية حتى يومنا هذا هي: تفسيره لكلام الله.

وبصمة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت في نقل الإرث النبوي وكلام المصطفى صلى الله عليه وسلم للأمة.

وبصمة خالد بن الوليد رضي الله عنه في قيادة المعارك العسكرية، وتحقيق الانتصارات لهذا الدين.

وبصمة الأئمة الأربعة رحمهم الله كانت في تيسير الفقه ونشره وتعليمه للناس وتقريبه إليهم.

وبصمة الإمام البخاري رحمه الله، في جمع ونشر السنة النبوية الثابتة والصحيحة وفق أعلى معايير التحقق والدقة.

وبصمة أبي جعفر المنصور في تأسيس دولة إسلامية بقيت تحكم وتنشر الدين لما يزيد عن خمسة قرون.

وبصمة فاطمة الفهرية في تأسيس أول جامعة، وتخريج الأئمة وعلى رأسهم "ابن خلدون"

وبصمة الإمام ابن حجر العسقلاني في شرح وإيضاح مفردات ومعاني حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وخصوصاً في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري.

وبصمة الإمام ابن باز رحمه الله في بناء العلماء، والدعاة، والعمل المستمر في خدمة الدين، وتقديم مئات الآلاف من الفتاوى الرصينة.

وبصمة الإمام الألباني رحمه الله في تنقية مرويات السنة النبوية، وتدقيقها، وتصحيحها، وإبعاد الدخيل عليها من خلال منهجية علمية رصينة، وعمل دؤوب.

وبصمة د.عبدالرحمن السميط رحمه الله في دعوة الأفارقة إلى دين الإسلام، ليسلم على يديه ١١ مليون في أفريقيا، ويستمر العمل بعد وفاته محدثاً أعظم الأثر.

وبصمة الشيخ أحمد ديدات رحمه الله في تأسيس مدرسة تجديدية مميزة، في مناظرة النصارى، ومحاججتهم.

وبصمة الملك عبدالعزيز رحمه الله في تأسيس هذا الكيان المترامي الأطراف، والمستقر، والفاعل في العالم بأسره، والذي يتولى الإشراف على المقدسات الإسلامية وخدمتها وخدمة قاصديها.

ودائرة التركيز تتطلب من القائد أن يسأل نفسه سؤالاً مركزياً جذرياً: 

ماذا عنّي؟ لماذا جئت للحياة؟ وماهي البصمة التي سأتركها بعد الرحيل ليستمر أجرها وأثرها؟

أيها القادة المباركون:

الأعمار قصيرة، فلا تضيعوها في (دائرة الاهتمام)، بل استثمروا كل يوم فيها في (دائرة التركيز)، فهي دائرة الامتياز، وهي من أعظم الأسباب لبقاء الأثر بعد الموت، و ليكن هدف الواحد منا: (أن أعيش بعد وفاتي ٢٠٠ عاماً).

ليصدق فيك شطر المتنبي: وتصغر في عين العظيم العظائم

ولو أردت أن أطرح عليك توزيعاً مقترحاً لوقتك وجهدك في الدوائر الثلاث، فيمكنني أن أقول:

ما لا يزيد عن ١٠٪؜ في (دائرة الاهتمام).

ما بين ٣٠-٤٠٪؜ في (دائرة التأثير).

ما بين ٤٠- ٦٠٪؜ في (دائرة التركيز).

أسأل الله تعالى أن يفتح لنا من فتوحاته، وأن يجعلنا مباركين، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يبقي أثرنا بعد الرحيل.


بقلم :  د.صالح المحيميد

__________________

د. صالح المحيميد: حاصل على الدكتوراه في تنمية القيادات من جامعة إدنبرة. وبرنامج القيادة التنفيذية من جامعة أكسفورد. عضو مؤسس لجمعية البحث العلمي والابتكار، مدرب، وخبير، ومؤلف، ومتحدث في شأن (القيادة).

0 التعليقات:

إرسال تعليق