4:31 م

منا الناجحون

نقرأ بين الحين والآخر كتاباً أو مقالاً يتحدث عن فلان أو علان من الناجحين في عصرنا الحاضر، ونسر بقراءة هذه السير بوصفها مصدراً من مصادر معرفة النجاح وطرق تحصيله، لكننا في الحقيقة نتجاهل نماذج شامخة من الناجحين عبر تاريخ أمتنا الطويل، والذين إذا تأملنا في سيرهم وأعمالهم  فإننا نصاب بالدهشة والذهول من الإنجازات العظيمة التي صنعوها والصفات التي اتصفوا بها .

فابن تيمية – مثلاً – إذا تأملت في مسيرة حياته، وجدته عالماً أفنى عمره في مناظرة أصحاب الطوائف والنحل الضالة وبيان انحرافهم وضلال مذاهبهم، والرد عليهم بنفس الأدلة التي يحتجون بها، فهو إمام في الرد على الطوائف، وكفى بهذه مزية، وبتلك الجهود نجاحاً، لكنك إذا انتقلت إلى جانب الفتيا والتآليف النافعة وجدته قد ملأ الدنيا من علمه الغزير، وأسلوبه البديع، حتى أن مؤلفاته جاوزت 30 مجلداً  ضخماً، وهذه المؤلفات الضخمة لو لم يكن من إنجازات الشيخ إلا كتابتها وإعدادها لكفى بها نجاحاً .

فإذا عدت إلى جانب آخر من سيرته في جانب الجهاد والتحريض على قتال التتار أيام غزوهم عاصمة الخلافة، واجتياحهم بلاد المسلمين، ورأيت جهوده في الدعوة إلى حرب الصليبيين، وجدته رجلاً نذر نفسه للجهاد، وبذل جهده ووقته وصحته في سبيله، وكفى بذلك نجاحاً .

فإذا انتقلت إلى البلاء الذي أصابه، وصبره على كلمة الحق، وعدم الرضوخ للمخالفين برغم الضغوط الكبيرة والجهود التي بذلت لتشويه سمعته، والإيقاع به، حتى سيق إلى السجن مراراً، فرأيت ثباته ويقينه، وقرأت كلماته الصادقة عن الصبر في المحن، رأيت نجاحاً آخر .

فإذا انتقلت إلى أسلوبه في التعامل مع المخالفين له من علماء السوء، ودعاة الضلال، والولاة الذين سجنوه وآذوه، وجدته في غاية الأدب والتواضع ولين الجانب، حتى إنه ليزور ألد أعداءه إذا مرض، ويسأل الله له الشفاء والهداية، ولما مات أحد مخالفيه حضر جنازته وقال لأهله : (أنا كالوالد لكم أقضي حوائجكم وأقوم على شأنكم)، في إهمال لكل أشكال العدوان الذي كان ذلك الشخص يبادر الشيخ به، وترفع عن أهواء النفس وميولها، فإذا نظرت إلى ذلك الأسلوب وجدته نجاحاً آخر يضاف لإنجازات ذلك الرجل .

ولست هنا بصدد الترجمة لهذا الإمام العلم لكني أردت أن ألفت الأنظار إلى أن الاطلاع على مسيرة مثل هؤلاء الناجحين من العلماء العاملين أكثر نفعاً وفائدة من الاطلاع على سير الناجحين من أهل الدنيا، الذين وإن حققوا الكثير من النجاحات الدنيوية إلا أنهم في غالب الأحايين ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً .

ولست بذلك أزهد في قراءة سير الناجحين في كل زمان ومكان، فالحق ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها، لكنني أذكّر القارئ الكريم بأن لدينا من النماذج الناجحة -والتي يقل مثيلها- الكثير الكثير، ونحن بحاجة ماسة إلى من يقوم بتقليب تلك السير وإظهار كنوزها، والكشف عن مكنوناتها، وتحويلها إلى خطوات محددة يمكن المسير عليها، وصياغتها بأسلوب معاصر، لتكون دليلا واضحاً للحصول على النجاح الحقيقي في الدنيا والآخرة .

قومي أولئك لا أبغي بهم بدلاً ** من ذا يبدّل بالروض الدياميما

0 التعليقات:

إرسال تعليق