9:21 م

ظاهرة الإذعان للسائد!

أيدي مقيّدة

في بحث ميداني معمّق أجراه عالم الأوبئة الاسكوتلندي "آرشي كوكرين" حول مدى أهمية بقاء المرضى في وحدات العناية بالشريان التاجي بالمستشفيات، والفرق بينها وبين وجود المريض فترة النقاهة في المنزل تحت رعاية منزلية طبية، وجد أن وحدات العناية بالمستشفيات أكثر خطورة على المريض، وأن البقاء في المنزل هو الأكثر أماناً، وهو ما يخالف السائد لدى كافة العاملين في الحقل الطبي!

وقد تحدث "كوكرين" عن جملة من الممارسات السائدة في الحقل الطبي  والتي اكتشف لاحقاً  - بعد الكثير من اللوم للمشككين - أن جملة من تلك المسلمات لدى الناس، بل وربما لدى المتخصصين: غير صحيحة!

وأياً كان موقفك من النتيجة التي توصل إليها كوكرين، فالأمر لا يهمّ، إذ العبرة هنا بالمثال الذي يؤكد على أن التسليم بالأساليب المعمول بها لمجرد أنها "سائدة ومتوارثة ومستمرة" غير صحيح، وأن التوقف عن اختبار الأدوات والأساليب ليس سلوكاً صحياً.

وفي الكثير من مجالات الحياة، اعتاد الناس على طرائق وآليات وأساليب للعمل، شاب عليها الصغير، وباتت في حكم المسلمات والقطعيات، للدرجة التي لم يصبح هناك من يعترض عليها، أو يشكك فيها، بل أصبح الحديث عنها بالتشكيك لون من ألوان النيل من المقدسات!.

وفي كتابه  (تكيّف)، أشار "تيم هارفرد" إلى نموذج آخر للفكرة ذاتها، وهي فكرة التسليم بالموجود، وأشار إلى أحد التطبيقات في العمل الإنساني بأفريقيا، حيث قامت إحدى الجهات غير الربحية بتطبيق أسلوب جديد لاستخراج الماء، ثم انتشر العمل به على نطاق واسع، وكانت خلاصته: أن يتم استخراج الماء من خلال مضخة مبنية على أسلوب اللعب، بحيث يدور الأطفال بشكل مستمر باسطوانة تحيط بالبئر "دوامة"، ويلهون بها، وتساهم كل دورة بهذه اللعبة في استخراج كمية من المياه من البئر، وأشار المؤلف إلى الرواج الإعلامي الكبير لهذه الفكرة، وأنها - من النظرة الأولى عن بعد - كانت فكرة رائعة من حيث الشكل العام، حيث تجمع بين إيجاد مكان للهو، مع تحقيق فائدة للمجتمع المحلي، وأكدت ذلك الصور الفوتوغرافية الملتقطة للأطفال وهم يلعبون ويتضاحكون، والماء يخرج من باطن الأرض، ولاعجب حينها أن يقوم البنك الدولي يمنح جائزة لهذه الفكرة المبتكرة؛ غير أنه حين قام باحثون استقصائيون بدراسة الفكرة، والالتقاء بالأهالي، و الأطفال في مواقع تركيب تلك المضخات، والاستماع إليهم، وجدوا أنها محل سخط وشكوى، وان تلك المضخات باتت نقطة ألم لهم، وأن هذه الفكرة ليس عملية مقارنة بالمضخة اليدوية الاعتيادية، ذلك أن تمضية الوقت الطويل في هذه اللعبة الدائرية غير محبب للأطفال، وهو لون من ألوان العمل الشاق، الذي يضطر الكبار لفعله لاستخراج الماء حيث لا يتاح الأطفال في كل وقت، ولا يمكن الاعتماد عليهم في مهمة حياتية كهذه! 

ولعل الخلاصة التي توصل إليها أولئك الباحثون، والتي نكررها هنا: يجب أن لا نسلم بصحة الأدوات والأساليب المستخدمة، ولا ننساق وراء التسويق الإعلامية لها، بل يكون الحس النقدي حاضراً ، وبشكل مستمر. 

وهو ما يدفعنا إلى دراسة مدى فاعلية الأساليب والأدوات والبرامج والمشاريع المنفذة في كل مجالات العمل الخيري لدينا، ودراسة كل مشروع اعتدنا على فعله، أو رأينا الآخرين يصنعونه، وذلك للتأكد من أننا على الطريق الصحيح، وأن هذا النشاط يحقق  - فعليا - الهدف من إطلاقه، وأنه ليس هناك خيارات أخرى أقل تكلفة أو أعظم أثراً او أقل سلبيات منه، نحن بحاجة إلى التأكد من كفاءة الإنفاق، وأن المال والوقت والجهد المبذول على هذا المشروع يستحق ذلك  أكثر، وهنا يجب أن نعتمد على معلومات حقيقية واستقصاء فعلي وتتبع، لا على مجرد الظنون، والقصص، والانطباعات الذهنية الأولية.

فنحن اليوم في مسعانا لتخفيف الفقر، وإغاثة الفقراء - على سبيل المثال - نمارس مجموعة من الأنشطة التي اعتدنا عليها ( سلال غذائية، ترميم منازل، سداد إيجارات، سداد فواتير، كسوة الشتاء، كسوة العيد، الحقيبة المدرسية، البطانيات، الأجهزة الكهربائية ...) دون ان نقيس مدى الحاجة الفعلية لتلك الأنشطة، ولا الأثر الناتج عنها، ولا رأي الفقير بشأنها، ولم نقم - في الكثير من الأحيان- بالسؤال عن البدائل الأكثر جدوى، أو الأقل تكلفة، أو الأكثر استدامة.

وفي السياق ذاته، هل كان لدورات اللغة الإنجليزية، و دورات الحاسب الآلي التي تقدمها الجمعيات لأبناء الأسر الفقيرة أثر كبير وفاعل، وهل غيّرت من مستوياتهم أو فرصهم الوظيفية؟ وهل كان امتلاك الجمعيات أصلاً لمراكز تدريبية يعدّ أمراً حسناً وإيجابياً؟ هل كانت خطوة في الاتجاه الصحيح، أما أنها إنفاق للمال في غير وجهه؟

ليس لدي إجابة على هذه التساؤلات، ولم أتخذ موقفاً نهائياً منها، لكنني أرى إخضاع ( كل ) أعمالنا وأنشطتنا للمراجعة والقياس، وأن يكون ذلك من جهات مستقلة تماماً لا مصلحة لها في بقاء تلك الأنشطة أو زوالها، ومن شأن تلك التقييمات المستقلة والمحايدة أن تجوّد العمل، وتصوّبه، وتجعله أكثر كفاءة وفاعلية، وقد تكون نتائج تلك التقييمات أن نزيد من بعض الأنشطة، ونقلل من بعضها، وأن نعدل على بعضها، وأن نلغي البعض الآخر بكل شجاعة.

إن الإبقاء على الحلول المكررة، والسائدة لمجرد ذيوع العمل بها أمر غير مقبول، والتخوّف من التغيير، والخشية من ردّات الفعل من شانها أن تجعلنا نسخاً مكررة لأعمال لم يثبت جدواها بشكل فعلي.

ولأن أخذتنا الأمثلة إلى جمعيات البر، فإن الحديث ذاته يقال عن بقية الجمعيات، وبقية الأنشطة، في شتى المجالات، إذ أن إخضاعها للنقد والتقييم، وعدم التسليم بتلك الممارسات البشرية أمر مهم، خصوصاً حين ندرك – مع الوقت – أن جملة منها لم تكن أو لم تعد تجدي، وحينها نشعر بالأسى لتلك القدسية التي ألقيناها على تلك الأعمال بينما لم تكن تستحق ذلك..

ويجب ألا تكون الممارسة، او الذيوع والانتشار حجاباً عن التقييم والنقد البناء.

دمتم بكل خير .

محمد بن سعد العوشن

20 / 3 / 2023  

(الرياض) حرسها الله




#تطوير #التطوير #العمل_الخيري #القطاع الثالث #غير_الربحي #الذات #التفكير #القراءة #كتاب

0 التعليقات:

إرسال تعليق