7:29 ص

وماهو بهيّن!

نتوقع أحياناً أن الأعمال الكبيرة والمؤثرة بل والخطيرة كذلك هي أعمال "عظيمة الحجم"، أو "كثيرة العدد" بالضرورة، وهو توقع غير صائب، فهي أحياناً تكون شيئاً يسيراً، لكنه يحدث أثراً عظيماً يصعب إزالة آثاره.

غير أن التشبيه الرائع في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الشهير عن حال أهل السفينة الذين نزل بعضهم أعلاها، ونزل بعضهم أسفلها، ثم إن الذين نزلوا أسفلها اقترحوا اقتراحاً مفاده لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. 

فكان النص الحاسم هنا (فإن تركوهم وما أرادوا؛ هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا) يجعلنا دوماً نعيد النظر في الفعل ذاته، وفي آثاره المتعدية بعد ذلك، بالنظر في مآلات الأمور ونتائجها الإيجابية أو السلبية قبل أن نقرر أن الأمر هين ويسير، وليس الحديث مقتصراً على الجانب السلبي، إذ الأمر ذاته ينطبق على أفعال الخير والإحسان، فرب فعل يسير استهان به صاحبه، وظن انه لا يصنع أثراً، لكن بركته وأجره وتأثيره كانت عظيمة.

فلا تستهن بأي إحسان تصنعه، أو صدقة تنفقها في سبيل الله ولو صغرت، فقد دخلت امرأة بغيٌّ مِن بني إسرائيل الجنة بسبب كلب أسقته على حين ظمأ، فوقوفك مع المسكين والمحتاج ولو بالشيء اليسير، قد يكون فيه خلاصك، وفي الحديث (اتقوا النار ولو بشقّ تمرة)، كما ثبت في الحديث كذلك (سبق درهم مائة ألف درهم)، وفي المتفق عليه صال صلى الله عليه وسلم : (يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة).

ولا تستهن بأي تأثير إيجابي تحدثه، أو عمل مبارك تقوم به، واحذر من التقاعس عنه بسبب قلة المستفيدين، فالعدد ليس المعيار الوحيد في الحكم على الفاعلية والتأثير، ورب كلمة لم يستفد منها إلا شخص واحد، غير أنها أثرت عليه وصنعت منه إنساناً مختلفاً، وربما أحدث بعد ذلك آثاراً عظيمة ناشئة عن تلك الكلمة اليسيرة.

ولا تستهن بأي نصيحة تقدمها للغير، ولا تهوّن من تأثير كلمة الحق التي تقولها، فرب كلمة جاءت بغير إعداد مسبق، وبشكل عفوي، أحدثت تغييرا جذريا في الآخرين، وكان بها خلاصك وخلاصهم.

ولا تستهن بتفاصيل البر بوالديك، وتتبع ما يرضيهما، وتفقد صغائر احتياجاتهما، ولا تستهن بالوقت الذي تمضيه معهما، فكم من حسرة ستعانيها حين يفارقان الحياة وأنت مقصر في حقهما، وتذكر أن القرآن الكريم نهى عن صغائر الأمور معهما، ( ولا تقل لهما أفّ).

ولا تستهن بالدقائق والسويعات التي تذهب هباء، فإن العمر هو تلك الدقائق التي تمضي، وإنما السيل اجتماع النقط، وتفريطك وتهاونك مرة بعد مرة يجعل سنوات عمرك تتصرم، وانت على نفس حالك.

ولا تستهن باي خطوة تقوم بها لتخفيف الإدمان الإلكتروني، والتخلص من عبودية الجوال والإنترنت.، فكل خطوة -ولو صغرت- يمكنها أن تمنحك وقتا إضافيا تصرفه في جوانب الحياة الأخرى المهمة، ولا يغرنّك كثرة المدمنين، فهم متورطون وإن تظاهروا بغير ذلك.

ولا تستهن بدقائق معدودة تنفقها في تلاوة آيات من الذكر الحكيم، أو السجود لله، أو حمده وشكره عل نعمه، وتسبيحه وتعظيمه، والتأمل في عظيم صنعه.

ولا تستهن بالحديث الإيجابي للتخفيف عمن وقعت عليه مصيبة، أو حلت به كارثة، ذلك أن جبر الخواطر، ومشاركة الناس همومهم من أعمال البر المحمودة، وفي الحديث (لاتحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلِق).

ولا تستهن بأي معصية ترتكبها، وتعتبرها هيّنة يسيرة، و تذكر (أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض)، ففكّر دوما في عظمة وجلال من عصيت.

ولا تستهن بالمجاهرة بالمعاصي أمام الناس، ففعل المعصية ذنب، غير أن المجاهرة بها ذنب آخر، وربما كان أكبر من الذنب الأصلي ذاته، ففي الحديث (كل أمتي معافى إلا المجاهرون).

ولا تستهن بكلمة تثبيط أو تحطيم توجهها لمبادر اجتهد في عمل يقوم به، أو مسعى بذل فيه وسعه، فكم من كلمات كانت أشد من اللكمات على وجوه المبادرين.

لا خيل عندك تهديها ولا مال * فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

ولا تستهن بالخوض في أعراض الناس، ونواياهم، وإصدار الأحكام عليهم، وتذكر قول الله تعالى (وتحسبونه هيّنا، وهو عند الله عظيم).

وفي حديث تقشعر له الأجساد، يقول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم.).

ولعلي أكتفي بتلك النماذج المشار إليها،إذ يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، جعلنا الله وإياكم من المعظمين لشعائر الله، الحريصين على ما يرضيه، المجتنبين لمواضع سخطه وغضبه.

دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

5 / 5/ 1445 هـ


0 التعليقات:

إرسال تعليق