الاحتلال الرقمي!
حينما قرأ صاحبي عنوان التدوينة وأنا أعرض عليه مسوّدتها، قال لي: لقد ظننت العنوان "الاختلال الرقمي"، فقلت له: إن هذا العنوان الذي بدا لك هو عنوان صحيح أيضاً، فالاحتلال والاختلال بنفس المعنى في هذه التدوينة.
نعم، إننا اليوم – وفي عصر الجوالات الذكية، وشبكات التواصل- بتنا خاضعين لـ احتلال غاشم، يسيطر على أوقاتنا، وجوارحنا، ومشاعرنا، وعلاقاتنا، دون رحمة او شفقة، وقد بسط هذا الاحتلال سيطرته التامة، وشمل الصغير والكبير، الذكر والأنثى، المشغول والفارغ على قدر سواء.
واستطاع هذا الاحتلال من خلال أسلحته المتنوعة والفتاكة انتزاع أهم أوقاتنا منا، كما استطاع في الوقت ذاته انتزاع أهم أحبتنا منا، وقبل ذلك وبعده انتزع منا قلوبنا وطمأنينتنا، فتلاشت أوقات الهدوء والسكينة والتأمل.
وبتنا نجد مئات الأعذار للتملص من الواجبات والالتزامات، وتبرير الفشل والإخفاقات، بحجة الانشغال الدائم بالأعمال والمهام وكثرة ارتباطات الحياة، بينما نحن نكذب على أنفسنا، ونعلم يقيناً أن لدينا كل يوم عدداً من الساعات الفارغة، التي نمضيها في التصفح غير الواعي لشبكة الإنترنت، تصفح اللاشيء، والبحث عن اللاشيء، ومتابعة الترند، والاطلاع على القضايا السخيفة المفتعلة، وتتبع التافهين.
شيء مما في نفسي: بدون الوعي بخطورة الاحتلال الرقمي، فسوف يزداد توغّله وسيطرته ونفوذه
وإن لم تصدق ما أقوله عن سلوكنا هذا، فـ جرّب مشاهدة الإحصائيات التي تقوم بها بعض التطبيقات عن استخدام الجوال، والتي تقدم تقارير ورسوماً بيانية لكيفية وحجم استخدامك لتطبيقات الجوال بشكل منتظم، حيث ستكشف لك – دون ريب- عن حجم الضياع الذي يعيشه الواحد منا، رغم كل محاولاتنا نفيه عن أنفسنا، وترى الكثيرين يبحث عن باقة انترنت غير محدودة، أو ذات حجم بيانات كبير، لأن هذا يضمن عدم الانقطاع عن المشتتات.
ستكشف لك تلك الإحصائيات كم من الساعات تمضيها وأنت تتجول في أحد التطبيقات التي ابتليت بالإدمان عليها، وصرت تشعر بالكثير من القلق حين تتأخر في فتحها، وتعاني من الأعراض الانسحابية لو انقطعت الشبكة، ولم يتيسر لك تشغيلها!.
هل قرأت كلمة "إدمان"؟ نعم هذا صحيح .. كلنا مدمنون! ولكن القليل منا هو من يعترف بذلك، ونتفاوت في حجم الإدمان ونوعه فحسب.
ولأن هذا الإدمان "جماعي" فلا تجد في البيت الواحد من ينادي: اتركوا جوالاتكم، وتعالوا لنتحدث، لنتشاور، لنتبادل الخبرات، لنسترجع الذكريات.
ولم يعد لدينا القدرة على أن نلمح في وجوه بعضنا أي تغييرات ناتجة عن مشاعر إيجابية أو سلبية، ذلك أن أعيننا باتت لا تحدق فيمن تقابلها، وإنما تكتفي بإلقاء شيء من النظرات العجلى متفرقة بين مقطع وآخر، تطبيق وآخر حياء من الطرف المقابل.
( إذا كنت تستخدم "التطبيق" مجانا، فتيقن أنك انت المنتج والسلعة!)
مقولة واقعية فعلاً، فتلك التطبيقات تبيع اهتمامك ووقتك ومشاعرك للغير وأنت لا تشعر.
وليس سراً أن نعترف بأن الكثير من التطبيقات تستخدم نفس تقنيات القمار المسببة للإدمان، ورغم أن صالات القمار – كما يقول أهلها – تفتح في أوقات محددة من اليوم، وتغلق في أوقات أخرى، فإن شبكات التواصل الاجتماعي مفتوحة طوال اليوم، فهاجس الحصول على المزيد من الدوبامين، والخوف من فقدان شيء أثناء الغياب يدفع المستخدم – قسرياً – لفتح التطبيق مرة بعد أخرى، والقيام بعملية تحديث، وتتبع، وتأكد، وباتت التطبيقات هي التي تستخدمنا، بدل أن نستخدمها!.
إن هذا الاحتلال الرقمي يؤثر علينا نفسياً وجسدياًً، ويدفعنا للمزيد من القلق والاندفاع والتقلبات العاطفية، فضلاً عن كونه أداة للهروب من مواجهة الواقع، وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وإحداث الأثر، ونفع الناس، وصنع المعروف، بل والتحرك نحو كسب لقمة العيش.
إننا في حاجة ماسة للوعي بهذا الاحتلال الذي تقف وراءه شركات مليارية، وتوظف لأجله آلاف العقول، والتقنيات، والاختبارات للحفاظ على شريحة المدمنين تلك وزيادتها، فهم بالنسبة إليها مصدر الدخل الرئيس، ومنهم تحصل الشركة على إيراداتها، ولم يعهد التاريخ احتلالاً يغادر من تلقاء نفسه، وإنما يغادر المحتل تلك الأراضي حينما يجد مقاومة حقيقية، ووعياً بمتطلبات المرحلة، وخسائر على أرض الواقع.
وإن تلك التطبيقات تهزمك في كل مرة، وتستولي على المزيد مما لديك، فإما ان تستسلم لها، فتخضع للمزيد من الإذعان والخسائر، وإما أن تقاوم لتنقذ ما يمكنك إنقاذه.
إن وعينا، وقرارتنا الحكيمة، وتظافرنا للفكاك من هذه الإدمان هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن تلحق الهزيمة بالاحتلال الرقمي.
دمتم بخير
محمد بن سعد العوشن
16 / 11 / 2025
الرياض – حرسها الله -
اقرأ أيضا : تدوينة إدمان الالتهاء
#التقنية #الإدمان #الجوال #تويتر #انستغرام #إكس #تيك_توك #يوتيوب #فيسبوك #سناب #تيكتوك #الاحتلال #المشاهير


