مع اقتراب الغروب
حين يقترب الغروب، تبدو التفاصيل التي شغلتنا طويلاً ..شيئًا تافهًا جدًا، لا قيمة له، ولا مبرر للانشغال به.
فيكتشف الإنسان – في الوقت الضائع – أن ما كان يظنه مهمًّا لم يكن إلا وهمًا كبيرًا، وأن ما تم تأجيله بالأمس لم يعد بالإمكان فعله اليوم.
كبار السن الذين اقتربوا من الرحيل،أو الذين أصابهم مرض الموت وشعروا باقتراب الأجل، تُصبح لديهم بصيرة من نوعٍ مختلف؛ فلا تغدو الأموال ولا المناصب مقصدًا لهم ولا همًّا، بل يغدو الوقت هو كل ما يفكرون فيه، ويطمحون إليه.
فتراهم يتأملون – بندم – تلك الساعات التي تسرّبت من بين أيديهم دون أن ينتبهوا، والأيام التي استهلكوها في القلق والانشغال بما لا طائل من ورائه.
يقول أحدهم: «ليتني استمتعت أكثر بما كان في يدي، بدل أن أعيش في انتظار ما لم يأتِ».
يندم كثير من اولئك على مشاعر لم يُعبّر عنها، وكلماتٍ لم تُقَل، وكان بإمكانها أن تُرمم علاقة أو تُشعل دفئًا في قلبٍ بعيد.
ويكتشفون أن الحياء المبالغ فيه، والمجاملات الكثيرة، ربما تبدو جميلة في الظاهر لكنها تقتل المعنى.
تراهم يمرّون بذهنهم طويلاً على تلك العلاقات الكثيرة التي ذبلت في زحام المشاغل، من أهل، وأصدقاء، وزملاء، والذين كان من الأجدر أن تُعاش اللحظات معهم بكل تفاصيلها وبكل حبّ.
يقول ابومحمد الذي عمل معلماًبـ 55 عاماً في الإمارات: «أندم لأنني عملت كثيراً، وأهملت صحتي، ولم أفكر في التمتع بالسفر إلى مناطق عديدة من العالم، ولم أقضِ وقتاً كافياً مع أبنائي، فقد كنت أفكر في تأمين حياتهم المادية على حساب العاطفية».
يتمنّى الواحد منهم لو عاد به الزمن ليعتذر، أو ليشكر، أو ليعبّر عن الحب، لكن الحياة لا تُعيد تلك المشاهد إلا في ذاكرته، ولا تمنحنا إمكانية التعديل في غالب الأحايين.
يندم أولئك المقتربون من الرحيل على تخلّيهم عن أحلامهم في مجال التعلّم، أو الكتابة، أو الهواية، أو السفر، أو القيام بعمل نافع، أو التواصل مع الآخرين و الإحسان إليهم، وهي الأعمال المؤجلة تحت ذريعة الانشغال، أو انتظار الوقت المناسب الذي لم يأتِ، ولن يأتِ.
تقول تهاني من مصر، التي قدمت للإمارات حين كان عمرها 26 عاماً: كان هدفي أن ابتاع لي بيتاً في بلدي، وأعود وأمكث فيه، متخيلة أحفادي يلعبون في باحته، والآن عمري 60 عاماً، ولديّ ثلاث شقق، لكنني لم أعش في أيِّ واحدة منها، وكانت نتيجة الطمع أنني كبرت، وأعاني ضموراً في القلب، ومطلقة وليس لديَّ أبناء،
يندم أولئك على إفراطهم ومبالغتهم في الانشغال بالعمل حتى نسوا أنفسهم، ونسوا من حولهم، ولذا يصيبهم الكثير من الحزن حينما يرون تلك الجهات والوظائف التي أفنوا أعمارهم فيها قد نسيت أسماءهم بعد أسابيع من تقاعدهم او رحيلهم – كما هي سنة الحياة-.
وحين تهدأ الأصوات من حولهم، يتبقى في القلب سؤالٌ واحد عن صلتهم بالله، ويتذكرون - بأسى - كم فرّطوا في جنب الله، وكم كانوا في غفلة، وكم قصّروا في العبادة، وفي شكر الله على نعمه المتكاثرة.
خاطرة مما في نفسي:
نحن نهرب مما نحن متيقنون منه، ونجري خلف ماليس يقينيا!
في ذلك التوقيت، يشعر الواحد منهم بأنّ كلَّ ما كان يبدو عنده كبيرًا وذا بال، قد تصاغر وانكمش عند النهاية، إلا ما كان بينه وبين ربّه.
وأخيرًا، يكتشف الجميع أن أكثر ما يُوجعهم ليس ما خسروه من مالٍ أو منصب، بل ما لم يقدّموه وكانوا قادرين على تقديمه، إذ لم يتركوا أثرًا يبقى بعد رحيلهم.
حين يقترب الغروب، لا يطلب الإنسان أكثر من رضا الله، وراحة الضمير، والذكر الحسن كلّما مرّ اسمه على ألسنة الناس، وأما بقية الأشياء، فمجرد هوامش مؤقتة… باتت كالسراب.
وأخيرا .. دعك من أولئك، واسأل نفسك: ألا يمكنك التدارك اليوم قبل أن تشعر بمشاعرهم تلك؟
دمت بخير
محمد بن سعد العوشن
الرياض -حرسها الله -
10 - 11 - 2025
اقرأ أيضــا : تدوينة : التأهب للرحيل

