لغة القالب

حين يغيب الكبار يبقى الأثر شاهدًا | محمد السنيد


عبدالله الضحيان.. سيرة عطرة لا يطويها الغياب

ليس كل من يغيب عن العين يطويه النسيان، فبعض الراحلين يتركون في القلوب أثرًا طيبًا لا يزول. من هؤلاء أبو علي الشيخ عبدالله بن محمد بن صالح الضحيان، رجل عاش بين الناس قريبًا إلى أفئدتهم، حاضرًا بابتسامته وكرمه ودماثة خلقه. غاب بجسده، لكنه أبقى خلفه سيرته العطرة ومواقفه التي تُحكى بمحبة، فصار ذكره عزاءً للنفوس، وخلوده في القلوب شاهدًا على حياة ملؤها الوفاء والبذل.

في يوم الثلاثاء الثامن من ربيع الآخر لعام 1447هـ، الموافق 30 سبتمبر 2025م، فقدت بريدة ومنطقة القصيم أبا علي، و ووري الثرى جسده الطاهر، بينما بقيت ذكراه حاضرة في الخاطر، وسيرته العطرة تتردّد على ألسنة من عرفوه وخبِروا خُلقه وطيب معشره. كان رجلًا نادر المثال، لا يكاد يُرى إلا مبتسمًا، ولا يُذكر إلا مقرونًا بالسماحة واللين. عاش عمره لا يعادي أحدًا ولا يشكو منه أحد، بل بسط الطمأنينة على من حوله كأب رحيم وأخ ودود.

أحبّه الناس حبًا صادقًا، فازدحمت جنازته بجموع المشيعين من الأقارب والأصدقاء والجيران، بل ومن وفدوا من جميع مناطق المملكةً ليودّعوا رجلًا لم يبخل يومًا بابتسامة أو معروف. وما ذاك إلا برهان على مكانته في القلوب، إذ لا تجتمع تلك الجموع إلا على محبة صادقة وإجماع على صلاح السيرة وحسن الأثر.

كان تاجرًا في السماحة قبل أن يكون في البيع، كريمًا في العفو قبل أن يكون في الضيافة. فتح قلبه للقريب والبعيد، الكبير والصغير، الفقير والمحتاج، فلم يُعرف عنه ظلم أو قسوة، ولا شكا منه جار ولا صاحب.

من أخص ما ميّزه قربه من البسطاء والضعفاء، يعاملهم بإنسانية رفيعة، في وقت قد يغفل فيه كثيرون عن هذه الفئة. سلوكه لم يكن تكلفًا، بل نابعًا من قلب صادق يرى لكل إنسان حقًا في البر والإحسان.

أما مع أسرته، فكان قدوة وملاذًا، قريبًا من أبنائه وأحفاده، يعيش بينهم كأخ وصديق، يمازحهم ويواسيهم ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم. صنع بذلك بيتًا مفعمًا بالمودة والوئام، انعكست روحه على ذريته الذين ورثوا عنه خصاله الحميدة، فصاروا امتدادًا لخلقه الرفيع، وأثرًا طيبًا يخلّد ذكراه.

ولم يقتصر عطاؤه على بيته ومحيطه، بل امتد إلى أسفاره، حيث كان يكرم جلساءه بنفسه، ويحرص على أن يعرّفهم بثقافة بلاده ومأكولات أهلها التي كان يقدمها لضيوفه في مقر سكنه كان يرى في الضيافة رسالة إنسانية عظيمة، يدخل بها السرور على النفوس بالفعل قبل القول.

وحافظ على صداقاته بوفاء نادر، يتفقد أحوال أصحابه، ويقف معهم في المسرات والمحن، حتى أنه سافر خارج البلاد لمواساة صديق في فقد أخيه، مفضّلًا الحضور على الاكتفاء بكلمة. هكذا كانت مروءته: لا ترضى بالقليل إذا كان في وسعها الكثير.

وحين ألمّ به المرض، ظل ثابتًا مبتسمًا، صابرًا محتسبًا، لا يعرف للجزع طريقًا. ابتسامته في وجه البلاء كانت رسالة بأن الإيمان أعظم عزاء، والتسليم لقضاء الله أوسع راحة.

وهكذا ختم الله له بخاتمة حسنة، فشيّعه الناس بقلوب مكلومة وألسنة داعية، مستبشرين له بما وعد الله عباده الصالحين. وما أعظم أن يُذكر المرء بعد رحيله بالخير، وأن يكون حضوره في القلوب أقوى من حضوره في الأجساد.

إننا إذ نرثي الشيخ عبدالله الضحيان، فإنما نرثي رجلًا لم يكن عابرًا في الدنيا، بل كان أثره ممتدًا في كل من عرفه، وسيرته حافلة بالمواقف التي تُروى للأجيال. ترك لنا نموذج الإنسان الذي لا يورّث خصومة ولا جفاء، بل يترك ذكريات طيبة وقلوبًا تدعو له بصدق وإخلاص.

رحم الله أبا علي رحمةً واسعة، وجزاه عن أهله وبلدته خير الجزاء، فقد مضى بجسده، وبقي أثره خالداً في القلوب والذاكرة.

تعازينا الحارة لأبنائه: علي، محمد، عبدالسلام، عبدالرحمن، عبدالعزيز، معاذ، أحمد، فيصل، فهد، صالح، وعبدالمجيد، ولكافة أفراد أسرته الكريمة، سائلين الله أن يلهمهم الصبر والسلوان، وأن يجعل ما تركه من إرث الخير والعطاء صدقة جارية تنفعه في قبره، وترفع منزلته عند ربه.. آمين.


تدوينة في الموضوع ذاته : عبدالله الضحيان : علي وأبوعلي - أحمد العساف

12:50 م

عدد المواضيع