لغة القالب

التطفيف في المكيال بين قبيلتين!


بينما كانت قبيلتان من الناس تعيشان في مكان واحد، وكان اسم القبيلة الأولى "بنو سالم" والقبيلة الأخرى "بنو نصار"، إذ قام أحد أفراد قبيلة "بنو سالم" بالبصاق في طريق الناس بطريقة مقززة، فلامه الناس من القبيلتين على صنيعه، وبالغ  آل "نصار" في التشنيع على القبيلة الأخرى، وذمها، والقدح فيها، من جراء ذك الفعل، حتى شعر بعض بنو سالم بالصغار، والدونية بسبب ما جنته يد ابنهم الجاهل، وصاروا لا يتصدرون أو يتحدثون في المحافل إلا وقلوبهم وجلة، خوفاً من أن يتم تذكيرهم بذلك الفعل أمام الناس.

ثم إن أفراداً من قبيلة "بني نصّار" جاءوا إلى ذلك الطريق ذاته فتبولوا فيه علانية، كما قام فئام منهم بكشف عورته والتغوّط في طريق الناس ونشر النجاسة دون مبالاة، فثارت الجلبة في السوق من جراء هذا الصنيع القذر وغير اللائق.

وكان بنو نصار -وهم الأكثر عدداً - ملاكاً للإذاعة المحلية، والصحيفة الأسبوعية الورقية، واللتان تحملان نفس الاسم "أخبار القرية"، إذ كانت هاتان الوسيلتان الإعلاميتان على بساطتهما تتناولان أخبار القرية ومستجداتها، فيتابعها الناس، ويستمعون إليها، وقد جعلوها مصدرهم الرئيس للمعلومات والمواقف والأحكام.

وحين بصق ابن بني سالم في طريق الناس، أفردت الصحيفة – في حينه - عدداً من صفحاتها لنقد السلوك السيء، وأخذ مرئيات الناس عنه، فكانت المصدر الذي أوصل خبر البصاق لكل أرجاء القرية ممن لم يكن في السوق آنذاك.

وحين وقعت الكارثة الفعلية من أبناء بني نصار، وكان فعلهم قبيحاً بكل المقاييس، توقع بنو سالم أن تضج الصحيفة والإذاعة وتطير بالخبر أياماً بل أسابيع كما فعلت في الواقعة السابقة، غير أن الخبر جاء على استحياء، وفي زاوية قصيّة من الصحيفة لا تكاد تقرأ، كما تم بث الخبر صوتياً في إذاعة أخبار القرية مع نشرة الحادية عشرة مساء، وهو الوقت الذي يغطّ فيه أغلب أهل القرية في سبات عميق.

ثم تم التكتم على الخبر، وتجاهله بعد ذلك، والتوقف عن الحديث عنه تماماً.

ومضت على تلك الحوادث سنوات عديدة..

وفي ذات يوم اختصم بنو سالم مع بنو نصار على أمر من أمور العيش اليومية، وفي خضم النقاش وارتفاع الأصوات، أشار زعيم بنو نصار إلى واقعة البصاق "الشهيرة"، ووظفها في إضعاف موقف خصومه، وقال للمجتمعين : أود تذكير الجميع بأننا لم ولن ننسى ما وقع من بني سالم في السوق.

وفي صباح الغد أعادت الإذاعة والصحيفة التذكير بحادثة البصاق الذي لا يتفق مع ثقافة القرية، فقرأ الخبر وسمع عنه الكثير من الشباب الذين كانوا حينها أطفالاً لا يدركون، كما سمع بذلك من جاء للقرية خلال السنوات الماضية، وتعجبوا واستهجنوا صنيع ذلك الفتى وسوء فعلته.

وصار بنو سالم في كل مرّة، وفي كل محفل، يتحدثون وهم يخافون من تذكيرهم بذلك الأمر، ولذا تراهم يبادرون في أول حديثهم قائلين "وإننا نود هنا الإشارة إلى أن مافعله ابنننا في اليوم المشهود كان فعلاً غير مقبول، ولا يمثلنا، ونتوقع أن لا تعاملوا القبيلة كلها بجريرة فرد منها" 

واستمر بنو نصار في تعاليهم رغم شناعة مافعله أبناؤهم، واستمر بنو سالم في إذعانهم رغم يسر مافعله ابنهم حينما يقارن بصنيع القبيلة الأخرى، غير أن القوة والإعلام والسطوة عظّمت وكبّرت وضخّمت فعلاً، بينما تناست الآخر.

وحال هاتين القبيلتين يشابه من وجه كبير حال المسلمين "بنو سالم" والنصارى "بنو نصار" .

فرغم أن من تبنى المنهج الإرهابي المتطرف، وقتل عدداً من الناس – وكان غالب القتلى من المسلمين- من خلال أعمال إرهابية متفرقة، كانوا قلة قليلة ومنبوذة ومحاربة من الحكومات والشعوب معاً، إلا أن الغرب وأعداء الإسلام تمسكوا بتلك الأفعال المحدودة، وبالغوا في تضخيمها، وتكبيرها، والحديث المتكرر عنها، وجعلها مادة إعلامية لا تتوقف، حتى ربطوا الإسلام والعرب والشرق الأوسط بالإرهاب..

وباتوا يتحدثون عن "الإرهاب" الواقع من المسلمين في 11 سبتمبر والذي تسبب في مقتل 3000 شخص، رغم مضي 25 سنة على وقوعه.

بينما قتل مايزيد عن 38.000 أفغاني -غالبهم من المدنيين- نتيجة الحرب الأمريكية على افغانستان بدون ضجيج إعلامي يتناسب مع حجم الجريمة التي ارتكبت هناك.

كما يذكر التاريخ جيداً مافعله أولئك النصارى من أفعال شنيعة، وجرائم يندى لها الجبين، وأفعال لا تمت للإنسانية بصلة، منطلقين من الكنائس، وتحت شعار "الحروب الصليبية" التي شنوها على أقطار الأرض، كما فعلوها من خلال محاكم التفتيش بكل فضائعها.

 ثم من خلال الاحتلال الإجرامي لبلاد العالم، وسرقة خيراته، والاستيلاء على ثرواته.

ومن خلال أخذ ملايين الأفارقة عبيداً لديهم ، يستخدموهم كالدواب، ويذيقونهم ألوان العذاب.

كما شنوا حروباً عالمية ضخمة، حيث يقدر إجمالي ضحايا الحرب العالمية الأولى بحوالي 37 مليون شخص (16 مليون قتيل و20 مليون جريح)، بينما يُقدر إجمالي ضحايا الحرب العالمية الثانية بما بين 70 و85 مليون شخص، فضلا عن حجم الدمار الذي حل بالأرض من جراء ذلك.

حيث كانت الحرب العالمية الثانية أكثر الصراعات دموية في تاريخ البشرية، فمن أشعلها، ومن قام بها؟ إنهم "بنونصار" الذين فعلوا كل الموبقات، ومع ذلك يلومون "بنوسالم".

كما كانوا أول من استخدم القنبلة النووية والذرية في الحروب، حين فقدوا صوابهم، فصبوا جام غضبهم على شعوب بريئة، فأبادوهم، وشوهوهم، وأحالوا ديارهم إلى بلاد أشباح.

وجعلوا من بلدان العالم مكاناً لاختبار أسلحتهم، وتجربتها على الناس، والتأكد من فاعليتها، في غياب تام لمفاهيم الإنسانية التي أشرقونا بها.

وحينما يتحدث مسلم، أو يصل إلى منصب في مكان ما، تثور ثائرتهم، ويعترضون، ويعيدون تشغيل الأسطوانة المشروخة ذاتها .. حيث يتم الإشارة - حينها- إلى بحوادث الإرهاب المحدودة جداً، ويتم التعامل معها كحادثة البصاق تماماً.

والحديث هنا ليس تحريضاً على القوم، وليس المقصود منه النيل من المختلف عنّا .. لكنه إثبات للحقائق التي يتم تجاهلها عن عمد وسبق إصرار، وإمعان في التظليل الإعلامي..

إننا مطالبون بجهد إعلامي مماثل، وتجلية للمواقف، وإبانة عن حجم الفجور في القول والفعل الذي يرتكبه الآخر، وأن يدرك العالم كله أن التاريخ لا ينسى، وأن فعائلهم الشنيعة لا يمكن أن تترك للنسيان، فيعلم الناس البون الشاسع بين بني سالم وبني نصار.

دمتم بخير ،، 


محمد بن سعد العوشن
الرياض - حرسها الله -
21 / 6 / 1447 هـ


7:01 ص

عدد المواضيع